مال وأعمال
.
في سبتمبر ٢٠٢٢ دخلت شابة لبنانية أحد المصارف اللبنانية، وشهرت مسدسا (تبين لاحقا أنه بلاستيكي)، مطالبة بإعادة وديعة شقيقتها التي تعالج من مرض السرطان.
كتبت سالي في تعليق سابق على حسابها على فيسبوك أرفقته بصورة شقيقتها على سرير المستشفى "يا عمري، أعدك أنك ستسافرين وتتلقين العلاج.. لو كلفني الأمر حياتي".
قصة سالي تشبه قصص مئات آلاف اللبنانيين الذين يتمنون الحصول ولو على جزء يسير من ودائعهم التي تحتجزها المصارف من دون وجه حق.
خلفيات كثيرة للأزمة الاقتصادية التي تضرب لبنان٬ وجزء كبير منها يقف وراءه اسم واحد تردد كثيرا في أروقة قضائية داخل لبنان وخارجه، إنه رياض سلامة.
سلامة هو حاكم مصرف لبنان (مدير البنك المركزي) منذ ٣٠ عاما تقريبا، ولفترة طويلة كان "المهندس" المالي للسياسات النقدية المثيرة للجدل، ولكن منذ ٢٠١٩ تحولت هذه الهندسة إلى كابوس على اللبنانيين.
والجمعة، قال وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي لرويترز إن لبنان تلقى مذكرة اعتقال من منظمة الشرطة الدولية (الإنتربول) بحق حاكم المصرف المركزي رياض سلامة.
وصدرت المذكرة بعد أن أصدرت فرنسا مذكرة لاعتقال سلامة في إطار تحقيقها باختلاس حاكم مصرف مئات الملايين من الدولارات من الأموال العامة، وهو اتهام ينفيه سلامة.
تجدر الإشارة إلى أنّ المادّة 31 من قانون العقوبات اللبناني لا تلزم المحاكم اللبنانية بتسليم أي مواطن لبناني للمحاكم الأجنبية، بل تنصّ على «إباحة» هذا التسليم بحالات محدّدة، وفق تقدير وقرار القضاء اللبناني وحده. وعليه، يمكن للقضاء اللبناني رفض تسليم الحاكم، بذريعة التوجّه لمحاكمته محلياً.
عام ٢٠٢١ أجرى مصرف لبنان إحصاءً لعدد المودعين، وتحديدا الذين يملكون حسابات بالدولار الأميركي (لا يتضمن الحسابات بالليرة أو الحسابات الطازجة بالدولار)، بلغ في نهاية مارس 2021 نحو مليون ونصف مودع تقريبا لديهم 107 مليارات دولار.
بعدما كان على مدى سنوات عرّاب استقرار الليرة وانتعاش الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية، وجد حاكم مصرف لبنان نفسه اليوم محور تحقيقات قضائية في لبنان والخارج، وتحوم حوله شبهات بتهم مالية عدّة.
وبدأ محققون أوروبيون منذ أشهر الاستماع إلى سلامة في بيروت بإشراف قاض لبناني، في إطار تحقيقات حول مصدر ثروته وشبهات غسل أموال في لبنان وتحويلها إلى حسابات في الخارج.
وسلامة (72 عاماً) هو أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم، إذ يشغل منصبه منذ العام 1993، وكان مهندس السياسات المالية في مرحلة تعافي الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية (1975-1990).
إلا أنه مع بدء ظهور ملامح الانهيار الاقتصادي وانطلاق تظاهرات شعبية غير مسبوقة في أكتوبر 2019 ضد الطبقة السياسية المتهمة بالفساد وبتغليب منطق الصفقات في إدارة البلاد، اتهم محللون ومراقبون زعماء سياسيين ومسؤولين بينهم سلامة، بتحويل مبالغ ضخمة من حساباتهم إلى الخارج.
وتحمّل جهات سياسية ومحللون ومواطنون في لبنان سلامة الذي كان يعدّ عراب استقرار الليرة، مسؤولية انهيار العملة الوطنية، وينتقدون بشكل حاد السياسات النقدية التي اعتمدها طيلة السنوات الماضية، باعتبار أنها راكمت الديون، إلا أنه دافع مراراً عن نفسه بتأكيده أن المصرف المركزي "موّل الدولة ولكنه لم يصرف الأموال".
تشكّل ثروة سلامة (72 عاماً)، أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم، محور تحقيقات منذ عامين في لبنان والخارج، إذ تلاحقه شبهات عدة بينها اختلاس وغسل أموال وتحويلها إلى حسابات في الخارج.
ويصرّ الرجل الذي نال جوائز إقليمية ودولية وأوسمة شرف تقديراً لجهوده في منصبه على أنه جمع ثروته من عمله السابق طيلة عقدين في مؤسسة "ميريل لينش" المالية العالمية ومن استثمارات في مجالات عدة بمعزل عن عمله على رأس حاكمية مصرف لبنان.
وخلال جلستي استماع في مارس الماضي أمام المحققين الأوروبيين، نفى سلامة أن يكون حوّل أي أموال من مصرف لبنان الى حساباته الشخصية داخل البلاد وخارجه، منتقداً ما وصفه بأنه "سوء نيّة وتعطّش للادعاء" عليه من جهات عدة.
تركّز التحقيقات الأوروبية على العلاقة بين مصرف لبنان وشركة "فوري أسوشييتس" المسجّلة في الجزر العذراء ولها مكتب في بيروت والمستفيد الاقتصادي منها رجا سلامة.
ويواجه سلامة ومساعدته ماريان الحويك وشقيقه رجا تحقيقات في لبنان و5 دول أوروبية على الأقل للاشتباه في استيلائهمم على أكثر من 300 مليون دولار من البنك المركزي.
ويُعتقد أن الشركة لعبت دور الوسيط لشراء سندات خزينة ويوروبوند من مصرف لبنان عبر تلقّي عمولة اكتتاب، تمّ تحويلها إلى حسابات رجا سلامة في الخارج.
وجمّدت فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ قبل عام 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية إثر تحقيق استهدف سلامة وأربعة من المقربين منه، بينهم شقيقه، بتهم غسل أموال و"اختلاس أموال عامة في لبنان بقيمة أكثر من 330 مليون دولار و5 ملايين يورو على التوالي، بين 2002 و2021".
ومنذ تعيينه، تم التجديد لسلامة أربع مرات، وتراكمت الجوائز والتقديرات التي حظي بها. فنال جائزة أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم من مجلة "يورو موني" عام 2006 ثم من مجلة "بانكر" عام 2009 وحاز أوسمة شرف فرنسية.
ومع اندلاع الحرب في سوريا المجاورة بدءاً من العام 2011، "بدأت تتراكم الإشارات الحمراء".
وتأثر الاقتصاد اللبناني سلباً بينما كانت الديون الرسمية تتراكم.
وبغطاء سياسي، انخرط سلامة منذ العام 2016 في هندسات مالية هدفت إلى الحفاظ على قيمة الليرة ورفع احتياطي المصرف المركزي ورسملة المصارف.
لكن خبراء اقتصاديين يعتبرونها من بين الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تعميق أزمة البلاد المالية.
مع بدء أزمة شحّ السيولة وفرض المصارف قيوداً مشددة على سحب الودائع خصوصاً بالدولار في خريف 2019، أصرّ في الأشهر الأولى على أن "الليرة بخير".
اليوم وبعد أكثر من ثلاث سنوات على انهيار صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، فقدت العملة المحلية أكثر من 98 في المئة من قيمتها أمام الدولار.
ورغم الانتقادات التي طالت أداءه، وشبهات الاختلاس وغسل الأموال والإثراء غير المشروع التي تلاحقه في لبنان والخارج، بقي سلامة في منصبه، مستفيداً من حماية سياسية توفّرها له قوى رئيسية في البلاد.
يرى خبراء في الأسواق المالية إنه كان لدى سلامة طموح للوصول الى رئاسة الجمهورية، ما يبرّر "عدم رفضه لأي طلب من الطبقة السياسية"، وكذلك "حمايته للمصارف التي يُعد السياسيون من مساهميها الرئيسيين".
ولطالما رفض سلامة التهم الموجهة إليه، متحدثا عن "بيانات مزورة" وخلفيات "سياسية".
سلامة ليس وحده من صدرت بحقه مذكرات توقيف ولم تنفذ، ففي ٢٠٢٠ أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قرارها في قضية اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري (فبراير 2005)، ووجهت المحكمة إدانه لسليم عياش في الجريمة.
عياش المتهم بقضية اغتيال الحريري لا يزال حراً طليقاً لحد اللحظة، بحجة تعذر الوصول إليه وتوقيفه.
ومثل سلامة وعياش ولكن بطريقة أكثر هوليوودية، نجح كارلوس غصن في الفرار إلى لبنان في ديسمبر 2019 بطرق غير معروفة من اليابان، وذلك عبر حقيبة موسيقية.
تم توجيه اتهامات رسمية لغصن من قبل السلطات اليابانية.
يُذكر أن غصن نفى جميع التهم الموجهة إليه واعتبر نفسه ضحية لمؤامرة تهدف إلى إسقاطه بسبب جهوده في تحسين أداء شركة نيسان والتحالف الذي شكله مع رينو وميتسوبيشي.
ويملك غصن الجنسيتين الفرنسية والبرازيلية، مولود سنة ١٩٥٤ ومتهم بإساءة استخدام أصول الشركة نيسان التي كان مسؤولها التنفيذي وغسيل الأموال والفساد.
ويعد غصن (٦٩ سنة)، من أشهر الهاربين في العالم، ويقيم في لبنان منذ فراره من اليابان.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة