في قلب أزمة اقتصادية عالمية ناشئة، تعود الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى الواجهة، لكنها هذه المرة تُدار على إيقاع مختلف: تصعيد جمركي غير مسبوق، وقرارات أحادية من إدارة ترامب، ومواقف صينية لا تنذر بتراجع.
ففي أقلّ من أسبوع، قفزت الرسوم الأميركية على الواردات الصينية من 54% إلى 125%، وردّت بكين برسوم انتقامية شملت كلّ الواردات الأميركية بنسبة وصلت إلى 84٪.
لم يكن هذا مجرّد ردّ فعل سياسي، بل انعكاسا لمعركة أعمق بين قوتين تسعيان لإعادة صياغة قواعد النظام الاقتصادي العالمي، وسط تراجع الثقة بين الشركاء الدوليين، واضطرابات حادّة في الأسواق، وخوف من تباطؤ واسع في التجارة العالمية.
هذه الحرب لم تترك أحدا خارج تداعياتها. المستهلكون في واشنطن يتكبدون أسعارا أعلى، والمصانع في الصين تواجه خطر الإفلاس والبطالة، والدول النامية تُسحق بين قوتين تفرضان كلفة النزاع على سلاسل التوريد وأسعار الموادّ الأولية.
لكن في خضم هذا التصعيد، يبدو أن بكين تمضي نحو المواجهة بثقة واضحة.
فهل تستطيع الصين أن تنتصر في حرب استنزاف طويلة ضد واشنطن؟ وما الذي يجعلها تعتقد أنها مستعدة "للقتال حتى النهاية"؟ وكيف سيتأثر العالم كلّه بهذه الحرب الجمركية؟
اعرف أكثر
التصعيد الجمركي الأخير بدأ يُترجم فعليا على الأرض، إذ بدأت شركات عالمية بتعليق الطلبات، وتراجعت حجوزات الحاويات بنسبة 49% عالميا، وواردات الولايات المتحدة انخفضت بنسبة 64% في أسبوع واحد فقط، وفق بلومبرغ.
أما منظمة التجارة العالمية، فخفضت توقعاتها لحجم تجارة السلع بنحو 4 نقاط مئوية، متوقعة انكماشا بنسبة 1% في 2025، بسبب الرسوم المتبادلة.
كما أكّد خبير الاقتصاد في منظمة التجارة العالمية السابق، روبرت كوبمان، أن الأشهر المقبلة "ستشهد صدمة سلبية" في التجارة بين الولايات المتحدة والصين، حسب بلومبرغ.
الرسوم الباهظة ضربت مباشرة أسعار المنتجات المستوردة. على سبيل المثال، ارتفعت كلفة الهواتف الذكية بنسبة قد تصل إلى 5 أضعاف بفعل الرسوم الأميركية على الصين، وفق بي بي سي. وشركة أبل، التي تُصنّع نسبة كبيرة من منتجاتها في الصين، خسرت 20% من قيمتها السوقية خلال شهر واحد.
في المقابل، علّقت شركات مثل "أمازون" طلبياتها من آسيا، وخفّضت مصانع إنتاجها وألغت العمل الإضافي لمئات الموظفين.
وفي الصين، يُتوقع أن تؤدي الرسوم الأميركية إلى موجة إفلاسات، وبطالة بملايين العمال، بحسب مركز "MERICS" في برلين.
أما في الولايات المتحدة، فإن الكلفة النهائية على المستهلكين قد تُقدّر بـ860 مليار دولار.
تأثير الحرب لا يقتصر على الأسعار فقط، بل يهدد البنية التحتية للاقتصاد العالمي.
إذ كشف تقرير لبلومبرغ أن شركات عالمية بدأت تعتمد على "الانتظار الاستراتيجي"، أي تجميد قرارات الشراء إلى حين اتضاح السياسات الجمركية.
كما أظهرت بيانات شركة Vision أن الشحنات بين أميركا والصين ستنخفض بشكل حادّ في الأسابيع المقبلة.
أمّا في الصين، فشهدت الأسواق تقلبات غير مسبوقة، وتراجع اليوان إلى أضعف مستوياته منذ 2007، حسب رويترز.
تشير بيانات بي بي سي إلى أن الصين تنتج أكثر بكثير مما تستهلك، وحققت في 2024 فائضا تجاريا يقارب التريليون دولار.
ووسط إغلاق السوق الأميركية، قد تلجأ بكين إلى تصدير هذا الفائض إلى أسواق أخرى، ما قد يهدد صناعات محلية في دول عدة.
قطاع الصلب، على سبيل المثال، قد يشهد تدفقات هائلة من المنتجات الصينية بأسعار أقل من كلفة الإنتاج، ما دفع "UK Steel" للتحذير من خطر الإغراق.
وفي جنوب شرق آسيا، عبّرت حكومات فيتنام وماليزيا عن مخاوفها من أن تتحوّل بلدانها إلى أسواق بديلة للسلع الصينية المدعومة، وفق أسوشيتد برس.
الرئيس الصيني شي جين بينغ عبّر عن رفضه القاطع لما وصفه بـ"البلطجة الأحادية" من واشنطن، مؤكدا أن الصين مستعدة لمواجهة طويلة المدى، حسب سي إن إن.
ومنذ أكثر من أربع سنوات، بدأ الحزب الشيوعي الصيني ببناء استراتيجية للصمود أمام "حرب استنزاف"، تتضمن تحفيز الاستهلاك الداخلي، وتحسين الابتكار المحلي، وتقوية القاعدة الصناعية، وفق ذي إيكونوميست.
وقالت صحيفة "الشعب"، الناطقة باسم الحزب، إن خطط المواجهة "جاهزة وكافية".
تملك الصين ما يعتبره خبراء "تفوقا في التصعيد" مقارنة بواشنطن. ففي حين تعتمد الولايات المتحدة على سلاسل إمداد حيوية من الصين، فإن بكين تتمتع بفائض تجاري كبير ومدخرات مرتفعة، وتستطيع بسهولة إعادة توجيه صادراتها، حسب فورين أفيرز.
كما بنت بكين بدائل استراتيجية: مصانع في فيتنام وكمبوديا، علاقات تجارية جديدة، وتطوير لسلاسل المعادن النادرة التي تُستخدم في الصناعات الدفاعية، وفق فورين بوليسي.
وتملك الصين أيضا قدرة على الضغط السياسي، من خلال تقليص التعاون في ملفات مثل الفنتانيل، أو فرض قيود على شركات أميركية كبرى مثل "تسلا".
وفقا لمحللين نقلت عنهم فورين بوليسي وذي إيكونوميست، فإن الصين كانت تبني على مدى السنوات الماضية ما يشبه "الملجأ الاقتصادي"، عبر سياسات تضمن الصمود بوجه العواصف الخارجية.
وتمثلت هذه السياسات بخفض الاعتماد على السوق الأميركية، وتسريع الابتكار، والتحضير لحزم تحفيز لدعم الاقتصاد، وفق سي إن إن.
وتشير التقديرات إلى أن نسبة الصادرات الصينية الموجهة للولايات المتحدة تراجعت من خمس إجمالي الصادرات إلى أقل من 15%.
أدّى تصعيد ترامب مع شركاء الولايات المتحدة الآخرين إلى خلق فرص جديدة للصين. إذ فرضت الرسوم الأميركية على دول مثل كمبوديا وفيتنام نسبا وصلت إلى 49%، ما دفع هذه الدول إلى الاقتراب أكثر من بكين بحثا عن دعم واستقرار، وفق أسوشيتد برس.
واستغلت الصين هذا التحوّل لتعزيز حضورها الإقليمي، وطرح رؤيتها "آسيا للآسيويين"، وتوسيع شبكة تحالفاتها في وجه واشنطن.