الذهب يكتب فصلا تاريخيا.. هل ينهار النظام النقدي أم يتجدّد؟
في مشهد يعكس تحوّلاً عميقًا في المزاج المالي العالمي، تخطّى الذهب عتبة الـ٤ آلاف دولار للأونصة للمرّة الأولى في تاريخه.
من الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة إلى الاضطرابات السياسية في فرنسا واليابان، ومن وعود الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بخفض الضرائب إلى جنون الذكاء الاصطناعي في وول ستريت، تتقاطع العوامل الاقتصادية والسياسية لتجعل المعدن الأصفر يتقدّم مجددًا إلى صدارة النظام النقدي العالمي.
فهل نحن أمام ملاذٍ آمن يعيد التوازن إلى عالمٍ مرتبك، أم أمام فقاعة جديدة قد تنفجر في وجه الجميع؟
الملاذ الأخير في زمن الاضطراب
أفادت وكالة فرانس برس بأنّ سعر أونصة الذهب تجاوز 4 آلاف دولار صباح الأربعاء للمرّة الأولى في تاريخه، بعد أن اندفع المستثمرون نحو هذا الملاذ الآمن وسط مخاوف من الإغلاق الحكومي الأميركي والأزمة السياسية في فرنسا.
وبلغ السعر في التعاملات الآسيوية 4001.11 دولار للأونصة، بعدما ارتفع المعدن بأكثر من 50٪ منذ بداية العام.
وأوضح محللون أنّ الذهب يواصل أداءه الاستثنائي في بيئة من القلق العالمي، إذ يُنظر إليه بوصفه استثمارًا يحافظ على القيمة الجوهرية للأموال عندما تتراجع الثقة بالمؤسسات والأسواق.
ذكرت وول ستريت جورنال أنّ موجة الشراء المكثفة للذهب بدأت منذ أغسطس عندما لمح رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، إلى نية البنك خفض أسعار الفائدة رغم بقاء التضخم فوق المستهدف، ما دفع الأسعار إلى مستويات قياسية.
هذا الصعود غير المسبوق لا يرتبط بانهيار مالي كما في أزمات 2008 أو 2020، بل بقلق متزايد من تراجع قيمة الدولار وبقية العملات الكبرى.
وأشارت الصحيفة إلى أنّ المستثمرين يتدفقون نحو بدائل الدولار مثل البيتكوين والمعادن الثمينة في ما يُعرف في وول ستريت بـ"صفقة تدهور العملات"، مع تصاعد المخاوف من توسع العجز المالي الأميركي واهتزاز الثقة بالسياسات الحكومية.
من باريس إلى طوكيو.. السياسة تلهب الأسواق
بحسب رويترز، ساهمت التوترات السياسية في فرنسا واليابان في إشعال موجة الاضطراب التي غذّت الطلب على الذهب.
فقد تراجعت الأسهم الآسيوية وارتفع الدولار مع قلق المستثمرين من استقالة رئيس الوزراء الفرنسي، سيباستيان لوكورنو، ما وضع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تحت ضغط للاستقالة أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة.
كما أثار فوز رئيسة الوزراء اليابانية المقبلة، ساناي تاكايشي، قلق الأسواق حيال توجهات السياسة النقدية، ما أدّى إلى تراجع الين إلى أدنى مستوى له في ٨ أشهر.
هذا التذبذب المتزامن في عملات كبرى عزز صورة الذهب كملاذ عالمي في مواجهة هشاشة السياسات.
المصارف المركزية وصناديق الذهب تتدافع للشراء
ذكرت رويترز أنّ الطلب العالمي على الذهب ارتفع بنسبة 1٪ في عام 2024 إلى مستوى قياسي جديد، مدفوعًا بشراء المصارف المركزية التي عززت احتياطاتها رغم ارتفاع الأسعار.
وأوضح مجلس الذهب العالمي أنّ المصارف تتجه إلى تنويع احتياطاتها بعيدًا عن العملات الرئيسية، فيما ضخّ المستثمرون نحو 64 مليار دولار في الصناديق المتداولة المدعومة بالذهب منذ بداية العام، بينها رقم قياسي بلغ 17.3 مليار دولار في سبتمبر.
كما أفادت بيانات بنك الشعب الصيني بأنّ احتياطيات الصين من الذهب بلغت 74.06 مليون أونصة بنهاية سبتمبر.
بيتكوين والذهب وجهان لتحوّط واحد
أشارت وول ستريت جورنال إلى أنّ الذهب والبيتكوين يسيران جنبًا إلى جنب في سباق التحوّط من المخاطر.
فقد تجاوزت عملة البيتكوين 125 ألف دولار، فيما ضخّ المستثمرون أكثر من 33 مليار دولار في صناديق الذهب المادي في الولايات المتحدة في سبتمبر وحده.
ورأى جو ديفيس من مجموعة فانغارد أنّ ما يحدث "صراع بين معسكر الذهب ومعسكر الأسهم المدفوعة بالذكاء الاصطناعي".
وأكّد كين غريفين، مؤسس سيتادل سيكيوريتيز، أنّ الذهب أصبح يُنظر إليه اليوم كملاذ آمن بالطريقة التي كان يُنظر بها إلى الدولار سابقًا.
الذهب يتفوّق على اليورو ويهدد مكانة الدولار
بحسب وول ستريت جورنال، أدّت مشتريات البنوك المركزية والعقوبات الغربية على روسيا إلى جعل الذهب يتجاوز اليورو ليصبح ثاني أكبر أصل احتياطي في العالم هذا العام.
كما ساهمت سياسات ترامب التجارية ورسومه الجمركية على الصين في دفع الدولار إلى أضعف أداء نصف سنوي له منذ أكثر من ٥ عقود.
وبعد أن استقرّ الدولار مؤقتًا، قفز الذهب مجددًا عقب تصريحات باول في أغسطس عن بدء دورة خفض الفائدة لحماية سوق العمل الأميركي، وسط توقعات بأن يعين ترامب خليفةً له العام المقبل يواصل نهج التيسير النقدي.
أسباب الصعود.. من العجز الأميركي إلى سيولة الأسواق
أفادت فرانس برس في تقريرها الأخير من طوكيو بأنّ ارتفاع الذهب بأكثر من 50٪ منذ مطلع العام وبنحو 12٪ في سبتمبر وحده يعكس مزيجًا من العوامل المتشابكة، من بينها المخاوف من الدين الحكومي الأميركي، وضبابية استقلالية الاحتياطي الفدرالي بعد انتقادات ترامب، إلى جانب تزايد الطلب من المصارف المركزية وصناديق المؤشرات المتداولة.
وأشار ريتشارد فلاكس من شركة مانيفارم إلى أنّ الزخم الأخير مدفوع بتدفقات قياسية نحو الصناديق المدعومة بالذهب، فيما ضعُف الطلب على المجوهرات بسبب ارتفاع الأسعار.
فقاعة جديدة أم إعادة توازن للنظام المالي؟
حذّر محللو بنك أوف أميركا من أن موجات ارتفاع الذهب التاريخية منذ القرن الـ١٩ كانت تسبقها عادة فترات انهيار حاد، فيما رأى محللو تي دي سيكيوريتيز أن الثقة بالمؤسسات الأميركية هي ما سمح للدولار بالبقاء عملة الاحتياط الأولى بعد فك ارتباطه بالذهب عام 1971.
لكن تقديرات غولدمان ساكس تشير إلى أنّ تحويل 1٪ فقط من السندات الأميركية إلى الذهب قد يرفع سعره إلى 5 آلاف دولار للأونصة، معتبرًا أن الذهب بات مخزنًا للقيمة لا يعتمد على الثقة بالمؤسسات، في وقت تتزايد هشاشة تلك المؤسسات نفسها.