نارفا على حدود روسيا.. هل تفكّ قبضة الصين المعدنية؟
على ضفة نهر يفصل إستونيا عن روسيا، يحاول مصنع مغناطيسات جديد أن يغيّر خريطة المعادن الحرجة في أوروبا.
فبحسب شبكة CNBC، طوّرت شركة Neo Performance Materials الكندية أكبر منشأة أوروبية لمغناطيسات العناصر الأرضية النادرة في مدينة نارفا، على الحافة الشرقية لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، في وقت تبحث بروكسل عن أيّ هامش لفكّ ارتهانها للصين.
في الخلفية، تكشف عن مشهد أكثر تعقيدا، خطة أوروبية بمليارات اليورو، مبادرة جديدة باسم RESourceEU، وجدل حول ما إذا كان الاتحاد الأوروبي أصلا مؤهلا للعب في "رجبي" جيوسياسي تدور إحدى كراته حول العناصر الأرضية النادرة.
مصنع نارفا.. رهان أوروبي على النهر الفاصل مع روسيا
وفق تقرير CNBC، افتُتحت منشأة "نيو" في نارفا منتصف سبتمبر، وهي على المسار لإنتاج نحو ألفَي طن متري من مغناطيسات العناصر الأرضية النادرة هذا العام، مع خطة لرفع الإنتاج إلى 5 آلاف طن وما بعدها لمواكبة "سوق ينمو بسرعة هائلة".
وتقدّر الشركة أنّ هذا المرفق يمكن أن يلبّي نحو 10% من الطلب الأوروبي على مغناطيسات تُستورد تقريباً بالكامل من الصين اليوم.
هذه المغناطيسات، كما توضح الشبكة، مكوّن أساسي في المركبات الكهربائية وتوربينات الرياح والهواتف الذكية والمعدات الطبية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والأسلحة الدقيقة. لذلك وقّعت "نيو" عقودا أولية مع مورّدين كبار لقطاع السيارات مثل "شيفلر" و"بوش"، الذين يزوّدون علامات ألمانية مثل فولكسفاغن وبي إم دبليو.
المفارقة أن هذا المشروع الصناعي المموَّل جزئيا من الاتحاد الأوروبي، بنحو 18.7 مليون يورو بحسب CNBC، يقام في مدينة سبق أن قال عنها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا إنها "جزء تاريخي من روسيا" ينبغي "استعادته"، ما يضيف إلى المصنع بعدا استراتيجيا يتجاوز الاقتصاد.
قبضة الصين على العناصر النادرة.. سلاسل الإمداد تحت المقصلة
تشرح CNBC أن الصين تتحمل نحو 60% من تعدين العناصر الأرضية النادرة في العالم وأكثر من 90% من تصنيع المغناطيسات، فيما تُعد أوروبا أكبر سوق تصدير لهذه العناصر الصينية. محللون نقلت عنهم الشبكة، بينهم ريان كاستيو من "أداماس إنتليجنس"، يحذرون من أن "المقصلة لا تزال تلوح" بعد سلسلة قيود تصدير قلبت سلاسل الإمداد العالمية.
هذا القلق يجد صداه في تقرير RFI، الذي يشير إلى أن بكين هددت في أكتوبر بفرض حدود جديدة على صادرات العناصر الأرضية النادرة، بعد قيود سابقة في أبريل، ما جدد المخاوف في الصناعات الأوروبية.
مفوض الصناعة في الاتحاد، ستيفان سيجورنيه، قال إن أوروبا أصبحت "مستهدفة مباشرة" بتوترات التجارة بين الولايات المتحدة والصين، فيما يذكّر برونو جاكيمان، من اتحاد الصناعات الفرنسي للمعادن، بأن أوروبا تحتاج هذه العناصر من الصين، لكن الصين تحتاج أيضا إلى 450 مليون مستهلك أوروبي، معتبرا أن الضغط التجاري سيكون أداة أساسية لتقليص التبعية.
الصين، بصفتها المنتج المهيمن، صدمت الأسواق عندما فرضت قيودا جديدة على صادرات معادن تُستخدم في المركبات الكهربائية والإلكترونيات وأنظمة الدفاع، قبل أن تعلّقها لمدة عام، بينما بقيت متطلبات التراخيص التي عطّلت سلاسل الإمداد قائمة.
3 مليارات يورو.. وعقيدة أمن اقتصادي ناشئة
أمام هذا المشهد، تستعدّ بروكسل لإطلاق مبادرة RESourceEU، التي يصفها تقرير RFI بأنّها خطة للحدّ من الاعتماد على الصين في العناصر الأرضية النادرة والمعادن الحرجة، وإعطاء التكتل سيطرة أكبر على الموادّ التي تدعم قطاعات من الطاقة إلى الدفاع.
جوهر الخطة هو إنشاء "مركز أوروبي للموادّ الحرجة" لتجميع طلبات الشركات وبناء مخزونات مشتركة، ضمن حزمة أوسع تطلق عليها المفوضية اسم "عقيدة الأمن الاقتصادي" وتهدف لجعل الشركات الأوروبية أكثر اعتمادا على الذات، على غرار خطة RePowerEU التي ساعدت على الابتعاد عن النفط والغاز الروسيين.
في التفاصيل المالية، يوضح موقع RFI أنّ الاتحاد الأوروبي يعتزم تعبئة نحو 3 مليارات يورو لدعم مشاريع استراتيجية في التعدين والتكرير وإعادة التدوير داخل أوروبا وفي دول شريكة، على أن تُخصَّص هذه الأموال في مرحلة أولى لـ25 مشروعا من أصل 60 مشروعاً استراتيجياً تشمل العناصر النادرة، إلى جانب الغاليوم والجرمانيوم والليثيوم.
في الوقت نفسه، بروكسل تقترح إنشاء "المركز الأوروبي للموادّ الخام الحرجة" على غرار وكالة JOGMEC اليابانية، وتدرس فرض قيود على تصدير الخردة والنفايات المرتبطة بالمغناطيس بدءا من العام المقبل، لتعزيز إعادة التدوير داخل التكتل.
أمّا رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، فتحذر في تصريحات نقلتها RFI من أنّ أوروبا باتت "أكثر عرضة للخطر" بسبب اعتمادها على دول أخرى في الأمن وإمدادات الموادّ الخام الحرجة.
مع ذلك، يحذّر مسؤولون وخبراء تحدّثوا إلى RFI من أن بناء قدرات أوروبا في هذا المجال سيكون "باهظا وبطيئا"، وسط مخاوف من تخلف الاتحاد عن الولايات المتحدة واليابان وكندا وأستراليا، ومن صعوبة التحرر من قبضة الصين على موادّ لا يمكن استبدالها بسهولة وتحتكر الأخيرة المعرفة المتعلقة باستخراجها ومعالجتها.
"لاعب القوة الخاطئ"؟ اختبار من أوكرانيا إلى المغناطيسات
من زاوية أوسع، ترى بلومبرغ أنّ هذه المعركة المعدنية جزء من اختبار أشمل لقدرة الاتحاد الأوروبي على التصرف كقوة جيوسياسية.
في تحليلها، تعود الوكالة إلى اتفاق مولوتوف- ريبنتروب عام 1939، وتقارنه بخطة أميركية- روسية حديثة بشأن أوكرانيا، لتقول إنّ أوروبا تجد نفسها مجددا أمام قوتين تتفاهمان على حسابها.
تطرح بلومبرغ سؤالا مباشرا، هل يمكن للاتحاد الأوروبي أن يصبح لاعب قوى صلبة في مواجهة روسيا والصين وحتى حليفه الأميركي الاسمي؟ وتجيب بأنّ طبيعة التكتل، المبنية على أدوات قانونية وبيروقراطية ومصمَّمة لمنع الحروب الداخلية، جعلته "اللاعب الخاطئ" في عالم يحتاج إلى إسقاط قوة صلبة، وهي مهمة أُسنِدت عمليا إلى حلف الناتو والولايات المتحدة لعقود.
في ملف العناصر الأرضية النادرة تحديدا، تشير بلومبرغ إلى أن كل طائرة مسيّرة تحتاج بطارية ومغناطيسا دائما وحساسات تعتمد على النيوديميوم وغيره من هذه العناصر، وأنّ الصين، حليفة روسيا، اختبرت بالفعل تسليح هيمنتها عندما فرضت عقوبات على شركة "سكيديو" الأميركية وقطعت عنها إمدادات البطاريات.
بالمقابل، تلفت الوكالة إلى أنّ إدارة ترامب اشترت حصة 15% بقيمة 400 مليون دولار في شركة MP Materials التي تستخرج النيوديميوم وتعالجه داخل الولايات المتحدة، بينما تملك بعض دول الاتحاد الأوروبي رواسب من دون مناجم عاملة.