صراعات
.
بصمت، في عمر التاسعة والثمانين، توفيت المهندسة المعمارية والجاسوسة الإسرائيلية إيزابيل بيدرو في منزلها نهاية شهر أبريل. قصة إيزابيل تعتبر حلقة من سلسلة حروب الجواسيس والأدمغة الاستخباراتية بين مصر وإسرائيل التي استمرت عقوداً طويلة من الزمن.
بيدرو مصممة الديكور والرسامة عاشت حياة هادئة، عُرضت لوحاتها الفنية في أوروبا وأمريكا وكانت متزوجة من رجل أعمال توفي عنها عام 2005 ولم يكن لها نشاط سياسي يذكر.
هذه الحياة الهادئة للسيدة العجوز كانت تخفي جبلا من الأسرار عمره أكثر من نصف قرن حينما عملت كجاسوسة ميدانية لجهاز الموساد الإسرائيلي في مصر لمدة ثلاثة سنوات تحت قيادة إسحاق شامير، ضابط المخابرات الذي أصبح لاحقاً رئيس جلسة الكنيست التي ألقى فيها أنور السادات خطابه إبان حرب 1973، ورئيس الحكومة فترتين منفصلتين في الثمانينات والتسعينات.
"جلستُ بجوار نيكيتا خروتشوف، زعيم الاتحاد السوفيتي، على نفس الطاولة في مطعم فندق كتراكت في أسوان" لهذه الدرجة استطاعت "العميلة راشيل" التغلغل في الطبقة العليا في مصر وصناعة الصداقات في عوالم الدبلوماسية والفن والسياسة المصرية.
بيدرو البالغة من العمر حينها 28 عاما ادعّت أنها حصلت على خرائط مفصلة بالغة الأهمية للسد العالي المصري وأرسلتها للموساد الإسرائيلي، بالإضافة لمعلومات حيوية عن قوافل عسكرية أرسلتها مصر للسودان ومطارات عسكرية وعدد ونوع الطائرات الحربية السوفيتية المستخدمة فيها، وبواخر وقوارب حربية، وحقيقة تواجد علماء ألمان ساعدوا مصر على صناعة الصواريخ قبيل حرب الأيام الستة عام 1967.
“
في برنامج الأطفال "عالم الجوارب"، شبيه بعالم سمسم، يسرد راوي الحلقة بفخر واعتزاز قصة الرسامة التي سافرت مصر شمالاً وجنوباً نيابة عن جهاز الموساد
“
ادعت بيدرو تسريب أسرار دبلوماسية وأمنية وسياسية أخرى عبر علاقاتها مع زوجات ضباط الجيش المصري ومسؤولي الحكومة وكبار رجال الأعمال ودبلوماسيين أجانب.
عادت بيدرو لإسرائيل دون إلقاء القبض عليها، وظلت قصتها طي الكتمان لخمسة عقود قبل أن تحاورها الصحافة الإسرائيلية للمرة الأولى عام 2010.
في برنامج الأطفال المتلفز "عالم الجوارب" المعروض على قناة كان العامة الإسرائيلية، شبيه بعالم سمسم، يسرد راوي الحلقة بفخر واعتزاز قصة الرسامة التي سافرت مصر شمالاً وجنوباً بالنيابة عن جهاز الموساد.
إيزابيل بيدرو وصلت عام 1961 من مدينة جنوة الإيطالية على متن قارب رسا في ميناء حيفا. الشابة الهاربة من علاقة زواج فاشلة استمرت لعام ونصف ثم سبعة أعوام مريرة من الانفصال بانتظار الطلاق كانت قادمةً من الأوروجواي في أمريكا اللاتينية، حيث درست الرسم والعمارة ورقص الباليه ولعب البيانو في جامعة مونتفيديو للفنون في عاصمة البلاد.
غولدا مائير، وزيرة الخارجية الإسرائيلية، آنذاك، سافرت عام 1959 إلى مونتيفيديو قادمة من دار إقامتها في فيلا هارون الرشيد المسلوبة من عائلة حنا بشارات خلال نكبة عام 1948. والتقت غولدا بمجموعة من الشباب اليهود الناشطين في الحركة الصهيونية في أميركا اللاتينية وكانت إحداهن بيدرو، التي كانت صهيونية شديدة التطرف أسست منظمة "إبرايكا" الشبابية لمحاربة اندماج اليهود في أوطانهم خارج إسرائيل ومنع زواج اليهود من أتباع الديانات الأخرى.
غولدا أعجبت بالشابة بيدرو وأشارت لها بإصبعها لتقترب منها عندما سمعتها تتحدث بحماس شديد عن إيمانها بإسرائيل ومطالبة زملائها الشباب ببذل الغالي والنفيس من أجل "الوطن". احمرت خدود إيزابيل، بحسب روايتها الأولى عند خروجها للنور، عندما قالت لها غولدا "نحتاجك معنا"، بعد أن سألتها إن كانت تتحدث اللغة اليديشية.
اتقان بيدرو للغات الفرنسية والإسبانية والإيطالية وغيرها، وصغر سنها، ومظهرها الحسن بالإضافة لتعصبها لإسرائيل ومقت غير اليهود لفت انتباه جهاز الموساد الإسرائيلي لها عام 1962 عندما طرق باب شقتها في مدينة جفعاتايم رجلان سردا لها تاريخها بالكامل ثم عرضا عليها العمل في مهمة أمنية دون توضيح تفاصيل. خوفها من أن يكونا من عصابات الاتجار بالنساء دفعها للاتصال بمركز الشرطة الذي طمأنها للأمر.
خاضت بعدها إيزابيل العديد من الاختبارات والتدريبات في شقة في تل أبيب مستأجرة خصيصاً لتدريبها منفردة لأربعة أشهر على فك رموز التصوير الجوي والخرائط وأنواع الأسلحة المختلفة وكيفية استعمال الحبر السري وجهاز مورس للأكواد المشفرة.
أصبحت إيزابيل رسمياً عميلة للموساد، قبل إرسالها لباريس عام 1963 للقاء الضابط المسؤول عن قسم العمليات الميدانية "مايكل" قصير القامة عريض البنية مفتول العضلات، والذي علمت لاحقاً أنه إسحاق شامير. بعد تكليفها بمهام تجسس في باريس ضد الأثرياء الروس الفارين من الاتحاد السوفيتي، وضد بعثات دبلوماسية في إيطالية، أصبحت إيزابيل جاهزة لمهمتها التالية والأهم في مصر.
"مركز العالم" بالنسبة للعميلة راشيل كان فندق سميراميس في جاردن سيتي. اختارته إيزابيل لجذب أبناء الطبقات الراقية والأجانب في مصر بعد تمكنها من الوصول للقاهرة بجواز سفر الأوروجواي الذي قامت بتجديده في فرنسا لإخفاء أختام دخول إسرائيل وتقديم نفسها على أنها سائحة مهتمة بدراسة الآثار المصرية القديمة. لم يكن في جعبة بيدرو سوى جهاز شيفرة مورس السرية خبأته في بطانة حقيبة سفر خشبية بالإضافة لجهاز راديو لالتقاط التعليمات من الموساد وكاميرا التصوير.
"لا أعرف كيف أستخدم السلاح ولا أريد تعلم ذلك أو القيام بعمليات اغتيال. أسلحتي هي عيني وأذني وذاكرتي وبالطبع الكاميرا"، هكذا أخبرت رئيس الموساد إيسار هارئيل الذي قابلها شخصياً في مقهى بشارع أرلوزوروف في تل أبيب قبيل إرسالها لمصر.
جهاز الموساد أعطى إيزابيل مطلق الحرية للتصرف بتلقائية وعفوية دون الرجوع إليهم، كيلا تثير الشكوك. وهو ما حاولت فعله عبر التنزه في خان الخليلي وشراء قلادة مزينة بحجر فيروز أو مشاهدة الأفلام المصرية واللبنانية والهندية في دور السينما الشعبية للتعرف أكثر على الجمهور المحلي. وكان أهم مكانين لاستراق السمع لمعلومات حيوية أو اختراق صفوف الطبقات العليا هما نادي الجزيرة في الزمالك وكوافير فندق سميراميس الذي ارتادته زوجات ضباط الجيش ومسؤولي الحكومة، وتبادلن الحديث عن أمور مختلفة اعتبرتها بيدرو معلومات قيمة. كما كانت تقابل بعض صديقاتها الجدد في كافيه جروبي العريق في طلعت حرب والذي يرتاده كبار ضباط الجيش وملحقو البعثات الدبلوماسية من العسكريين.
تمكنت إيزابيل من صناعة العديد من المعارف في مصر كأثرياء حي هليوبوليس، والقنصل الإيطالي في الإسكندرية، وسيدة إيطالية متزوجة من رجل مصري مهم، وصحفي مشهور، وضابط قوات مشاة من رتبة صغيرة، وأصحاب محل علي بابا للأنتيكات الذي ارتاده أبناء الطبقة العليا. بالإضافة لشخصية تلفزيونية معروفة عرض عليها برنامجاً خاصاً تقدمه باللغة الفرنسية التي تتقنها على التلفزيون المصري، وهو ما رفضته خوفاً من أن ينكشف أمرها.
كانت بيدرو تقدم نفسها كرسامة ومعمارية مهتمة بالآثار المصرية القديمة، وتعرفت على شاب مصري جاب جميع أطراف البلاد اصطحبها في جولة لأسوان حيث تعرفت على قبطان مركب قرب موقع بناء السد العالي وتعلمت منه تفاصيل تاريخ السد.
قالت إيزابيل إنها سرّبت المعلومات الخطية والمصورة كخرائط السد العالي عبر بعض السياح الإسبان الذين صادقتهم وطلبت منهم اصطحاب مغلفات ورقية لضابط بحرية إسباني كانت قد تعرفت عليه أثناء سفرها لأوروبا وطلبت منه إرسال تلك الرسائل من الحين للآخر نيابة عنها إلى عنوان بريدي في إسرائيل لطمأنة عائلتها، وقبل الرجل بذلك طمعاً في كسب ودها لتصبح عروساً لابنه.
عادت إيزابيل لإسرائيل نهاية عام 1965 وخضعت لاستجواب شامل من الموساد ثم عادت لتعلم الفنون والتصميم والعمل كمعمارية. وطلب منها رئيس الموساد هاريل لإعادة تصميم منزله. تزوجت بيدرو من رجل الأعمال بن عامي كابلان والذي كان عضواً في تنظيم الإرجون الإرهابي المسلح قبيل حرب عام 1948.
عند انكشاف قصة بيدرو إيزابيل، جاءت تسريبات إلى الصحف المصرية تقول بأن جهاز المخابرات العامة المصري كان على علم كامل بأنشطتها وخدعها لتمرير المعلومات الوهمية والمغلوطة لخداع الحكومة الإسرائيلية وتضليلهم. وادعت صحيفة المصري اليوم بأن الخرائط التي حصلت عليها بيدرو كانت مزورة، وأن بعض الرجال الذين التقت بهم كانوا ضباط مخابرات مصرية سريين.
قصة العميلة إيزابيل بيدرو هي مجرد جزء من حرب استخباراتية طويلة بين الجانبين المصري والإسرائيلي، تملؤها قصص الجواسيس والعملاء السريين الذين جسدت قصصهم في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية في مصر وإسرائيل. فبرز اسم هبة سليم على سبيل المثال كجاسوسة لحساب إسرائيل في فيلم الصعود إلى الهاوية بعد تمكنها من تجنيد ضباط مصريين قبيل حرب 1973، وأشرف مروان الذي تدّعي إسرائيل أنه واحد من أهم العملاء السريين لحسابها باسم، في مقابل ادعاءات مصادر مصرية تقول إنه كان عميلاً مزدوجاً. بينما قام المصريون بتجنيد عملاء ضد إسرائيل مثل كابورك يعقوبيان ورأفت الهجان وجمعة الشوان. وفي شهر نوفمبر من العام الماضي أعلنت السلطات المصرية إيقاف ١١ طياراً إسرائيلاً ورفض دخولهم بحجة "تهديد الأمن القومي"، وهو ما أعاد حرب الجاسوسية للأذهان.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة