صراعات‎

أطفال المايقوما في الخرطوم.. دار الأيتام مشرحة

نشر

.

Nasma Elhag

بين جحيم اليتم ونيران الحرب، يعاني أطفال دار المايقوما لفاقدي السند (الأيتام) في الخرطوم، الأمرين، منذ اندلاع الاشتباكات بين الجيش وقوات أفراد الدعم السريع في منتصف أبريل الماضي.

لم يجد هؤلاء الأطفال مهربا، الموت يلاحقهم مع تصاعد الحرب، حتى حصد عداد الموت 14 طفلا في يوم واحد، بعدما شلت الحرب إمدادات الدار الغذائية والمالية والصحية، كما بات من شبه المستحيل على مقدمي الرعاية، الوصول إلى الدار، باستثناء عدد قليل منهم.

موجات موت

الحرب التي تقترب من دخول شهرها الثاني، شددت الحصار على أطفال الدار-المتراوحة أعمارهم من أيام وحتى سنوات- من مختلف النواحي، حتى أصيب عدد كبير منهم، خصوصا حديثو الولادة، ضعيفي البنية، بسوء تغذية حاد، وجفاف، والتهابات وحمى، أودت بحياة 50 طفلا منهم منذ 15 أبريل.

"كانوا بحاجة إلى إطعامهم كل 3 ساعات، لم يكن هناك أحد، حاولنا تغذيتهم عبر الوريد، لكننا لم نتمكن من إنقاذ معظمهم"، "مشاهدتهم ميتين في أسرتهم كانت مرعبة ومؤلمة جدا"، تقول الدكتورة عبير عبدالله، المديرة الطبية للدار.

عبير قالت إن وتيرة الموت في الدار كانت تتزايد بشكل مرعب، حتى وصل عدد الوفيات إلى 4 في اليوم، وفي يوم الجمعة الماضي، فجعت إدارة الدار بموت أكثر من 13 طفلا في 24 ساعة فقط.

بكاء يحجبه دوي الرصاص

سوء التغذية ونقص مقدمي الرعاية ليسا السببين الوحيدين في موجة الموت الجماعي التي حلت على الدار، إذ شكل انقطاع التيار الكهربائي تحد حقيقي أمام إدارة الدار، خصوصا بعد انقطاع إمدادات المازوت في العاصمة لتشغيل المولد الاحتياطي، وهو الأمر الذي أكده صديق فريني، المدير العام لوزارة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم، التي تشرف على مراكز الرعاية، وميزانياتها، وموظفيها وغيره.

وعزا صديق حالات الوفيات بشكل رئيسي إلى نقص الموظفين، وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر، فـ"بدون مكيفات أو مراوح سقف، تصبح غرف الأطفال شديدة الحرارة في طقس شهر مايو، كما يصعب انقطاع الكهرباء تعقيم المعدات الصحية كذلك".

تحت رحمة رصاصة

وفيما تستمر الاشتباكات في العاصمة السودانية، حتى أثناء إعلان الهدن، تصنف منطقة السجانة، حيث تقع الدار، على أنها خطرة، إذ استهدفتها الضربات الجوية والمدفعية في أواخر الأسبوع الماضي، واضطرت إدارة الدار إلى إجلاء الأطفال من بعض غرف الدار، بعدما أصبحت حياتهم تحت رحمة قذائف ورصاص طرفي النزاع، وتعالت أصوات بكائهم التي يحجبها أزيز الرصاص ودوي القذائف.

ضحايا غير مرئيين

ويعتبر أطفال المايقوما من "الضحايا غير المرئيين" في السودان، نسبة لوصمة العار المرتبطة بهم، إذ تستقبل الدار التي تأسست عام 1961، مئات الأطفال فاقدي السند سنويا، وفقا لمنظمة أباء بلا حدود، عدد كبير منهم نتجوا عن وقائع حمل خارج إطار الزواج، الأمر الذي يرفضه المجتمع السوداني، ذو الأغلبية المسلمة، بشكل قاطع.

وحتى قبل الصراع، كانت الدار تكافح يوميا لتقديم الرعاية اللازمة لهؤلاء الأطفال، إذ كانوا يعيشون في مساحات ضيقة جدا بمتوسط يبلغ 25 طفلا في الغرفة الواحدة، و2 إلى 3 أطفال على السرير الواحد، الأمر الذي كان يؤثر على أحوالهم الصحية بشكل كبير.

ولطالما طاولت الانتقادات إدارة الدار التي تفتقد للتمويل الكافي منذ وقت طويل، إذ شهدت المايقوما ارتفاعا حادا في عدد الوفيات في عام 2003، حينها تدخلت منظمة أطباء بلا حدود لمساعدة الدار، بعد موت 77 طفلا في يوم واحد.

"كم طفل ميت سأجد عندما أستيقظ"

وفي عام 2021، ارتفع عدد القتلى مجددا ووصل إلى 12 طفلا في الشهر، فتدخلت المنظمة مجددا بتقديم دعم مالي، ونجحت في خفض عدد القتلى إلى النصف.

وعندما اندلعت الحرب، كانت الدار تعاني بالفعل من نقص مقدمي الرعاية، إذ لم يكن هناك سوى 20 مربية لحوالي 400 طفل بحسب ما قالته الدكتورة دعاء إبراهيم، العاملة في الدار.

"عملت مربية وممرضة وطبيبة. أطعم طفلا وأعطي الأدوية لآخر، وأبدل حفاضات طفل ثالث.. عندما أجد وقتا لأغفو، لا أعلم كم طفل سأجده ميتا حينما أستيقظ"، تقول دعاء.

الطبيبة التي يكاد الأسى يخنقها وهي تقص الأحداث التي شهدتها في الدار، اضطرت إلى مغادرة المايقوما بعد 4 أيام من الحرب، بعدما أعياها الإرهاق وأصيبت بالحمى.

"الخرطوم كلها منطقة عسكرية"

وبدأت أوضاع الدار تتدهور سريعا منذ أولى أيام الحرب، خصوصا بعد استقبالها بعض الأطفال في الأسبوع الأول من الصراع، جزء منهم أرسلوا إلى مركزين آخرين للرعاية، و10 أطفال آخرين أعادتهم مستشفيات كانوا قد أدخلوا إليها لتلقي العلاج.

حينها، أطلق موظفو الدار نداء استغاثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بحثا عن متطوعين لتقديم الرعاية للأطفال في الدار لإطعامهم، واستجاب للنداء عدد من المدنيين، ليس من بينهم طبيب أطفال، وفق ما قال الدكتور عبد الله آدم، طبيب في الدار.

"الخرطوم كلها بقت منطقة عسكرية، مافي زول قادر يتحرك"، يقول عبد الله.

ورغم المحاولات، يظل عدد مقدمي الرعاية في الدار قليلا مقارنة بعدد الأطفال، ما يهددهم صحيا بشكل كبير. فمثلا، يبقى الأطفال بحفاضاتهم المتسخة لوقت طويل، بسبب قلة الموظفين، ما يجعلهم عرضة للطفح الجلدي والالتهابات والحمى التي من الممكن أن تودي بحياتهم إذ ارتفعت حرارة البعض منهم بشكل كبير حتى وصلت 43 درجة مئوية.

أجساد ضئيلة يلفها الأبيض

"نحن نفقد الأطفال يوميا".. أعلنت منظمة حاضرين غير الحكومية في بيان قبل أيام، والتي تعمل على جمع التبرعات لمساعدة الدار منذ بداية الحرب.

"نفقد يوميا الأطفال بين عمر 6 و18 شهرا، نفس الأعراض، درجات حرارة عالية، وبعد 4 ساعات، تذهب النفوس البريئة إلى الله الذي هو أرحم عليهم منا"، جاء في البيان.

وفي غرفة قريبة من بوابات الدار، تغسل الجثث الصغيرة وتلف بقطع قماش بيضاء "أكفان".

وحتى بعد موتهم، تستمر الحرب بمطاردتهم، إذ اعتادت إدارة الدار على دفنهم في مقبرة قريبة من مقرها، إلا أن تدهور الأوضاع الأمنية بات يقف حائلا دون ذلك، الأمر الذي اضطر الموظفين إلى دفنهم في أقرب مكان يسهل الوصول إليه.

مدينة أشباح

وكانت الحرب في السودان قد أسفرت عن مقتل أكثر من 700 شخص، وإصابة آلاف آخرين وتشريد أكثر من 1.3 مليون شخص داخل وخارج البلاد، وفقا لإحصاءات حديثة للأمم المتحدة. إذ بات كثيرون يصفون العاصمة، حيث يتمركز القتال، بـ"مدينة الأشباح"، بعد فرار معظم سكانها. فيما يتوقع أن يكون العدد الحقيقي أعلى من ذلك، خصوصا بعد توقف المكاتب الصحية والحكومية التي تحصد أعداد القتلى والجرحى عن العمل، بعدما اشتد القتال.

كما أصابت الحرب القطاع الصحي بضرر لا يسهل التعافي منه، وأودت بالبنية التحتية للبلاد، بما في ذلك المستشفيات والمطارات، وبعد أن كان عدد الذين يحتاجون إلى مساعدات، 16 مليون شخص قبل الحرب، قفز هذا الرقم الآن إلى 25 مليون شخص، خصوصا بعد خروج أكثر من ثلثي المستشفيات في مناطق القتال عن الخدمة، بحسب منظمة الصحة العالمية.

حمل التطبيق

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة