صراعات
المشهد يبدو سريالياً تماماً، بوابة ضخمة من الحجارة مكتوب أعلاها بالإنكليزية "مرحباً بكم في مدينة باميان الأفغانية"، وفي اليمين نقش تمثال لبوذا باميان الأثري مكتوب تحته "جماعة طالبان الإرهابية" دمرت هذا النصب الذي يعود تاريخه لنحو 1500 عام، وببعض الطلاء شطبت كلمة "إرهابية".
المكان تحيط به حقول البطاطس تحت جبال هندو كوش المغطاة بالثلوج، وبعد البوابة، نصبت حركة طالبان مؤخراً مكتبا لبيع التذاكر السياحية أسفل نفس تمثال بوذا الكبير الذي نسفوه عام 2001، وإلى جانب التمثال يجلس حراس طالبان المسلحون أمام منفذ لبيع الآيس كريم.
في بحيرة منتزه باند أمير الوطني القريب، مسؤولون حكوميون من طالبان يجدفون في عوامة على شكل وزة حمراء اللون ليستمتعوا بنقاء السماء وزرقة المياه.
وادي باميان حيث كان ينتصب تمثالي بوذا. ويكيميديا
لم يمض سوى عقدين من الزمن على اعتبار طالبان هذه المنطقة الأثرية "ساحة وثنية لعبادة الأصنام"، وتدميرهم آثارها بالرغم من مناشدات الحكومات والمؤسسات الأممية حول العالم، لكن اليوم تناشد حكومة طالبان العالم لزيارة نفس التماثيل القديمة في محاولة للتودد للبعثات البحثية الدولية للعودة واستكشاف الآثار في المنطقة، يقول عتيق الله عزيزي، نائب وزير الثقافة في طالبان، لصحيفة واشنطن بوست إن "باميان وبوذا على وجه الخصوص لهما أهمية كبيرة بالنسبة لحكومتنا، تمامًا مثل العالم".
فما الذي قلب حال الحركة الإسلامية وبدل رأيها حيال الأمر؟
"يجب أن يفخر المسلمون بتحطيم الأصنام. يجب أن يحمدوا الله أننا أهلكناهم" نقلت صحيفة التايمز هذا التصريح عن الملا عمر، قائد حركة طالبان في مارس عام 2001 بعد أربعة أيام من بدء الحركة الإسلامية الحاكمة آنذاك بتدمير تمثالي بوذا العملاقين في باميان. ونُقل عن الملا أنه قال أثناء التدمير "ما الذي تشكون منه؟ نحن فقط نخوض الحرب على الحجارة".
قيادات من طالبان أعلنوا نيتهم تدمير تلك التماثيل عام 1997 بحجة تنفيذ الشريعة الإسلامية، إلا أن الملا عمر أصدر مرسوماً في العام 1999 للحفاظ على المنطقة التاريخية، مشيرا إلى حقيقة عدم وجود أفغان يعبدون تلك التماثيل، لكن مع الألفية الجديدة، عادت الأصوات مجددا لتطالب بتدمير تمثالي بوذا الشهيرين.
التمثالان حفرا في الجبل نفسه، وهنا كانت صعوبة تدميرهما، بعد محاولات التصويب عليهما باستخدام المدافع المضادة للطائرات والمدفعية، قبل وضع الألغام المضادة للدبابات في المنافذ السفلية، وفي النهاية، وضع عناصر التنظيم متفجرات في ثقوب داخل التمثالين، ثم أطلقوا صاروخا أحدث فجوة في بقايا الرأس الحجري.
بقايا تماثيل موجودة الآن في متحف كابول. رويترز
أذهل تدمير النصب القديم الثمين المجتمع الدولي وعزز من سمعة طالبان كحركة متطرفة ومتشددة في الحكم. وبعد ستة أشهر من تدمير التمثال اجتاح الجيش الأميركي أفغانستان عقب هجمات 11 سبتمبر وسقط حكم الحركة للبلاد في أيام معدودة.
في متحف كابول الوطني فوجئ العاملون في شهر مايو الماضي برؤية كبار مسؤولي حكومة طالبان يترأسون الحضور في افتتاح قسم للقطع الأثرية البوذية، وفقاً لواشنطن بوست. تنقل الصحيفة الأميركية عن مسؤولي طالبان بأنهم قاموا بتعيين أكثر من 1000 حارس لحماية التراث الثقافي في جميع أنحاء أفغانستان والإشراف على مبيعات التذاكر وحماية المناطق الأثرية من النهب.
ما يزال هناك شيء من الامتعاض من بعض أعضاء طالبان الذين يجدون صعوبة في تقبل الآثار البوذية التي يؤمنون بأنها "كفرية"، مثل حاكم ولاية باميان عبد الله سرهادي الذي أمضى جزءا من حياته كمعتقل في سجن جوانتانامو، والذي يقول إنه ملتزم بالحفاظ على التراث الثقافي لأفغانستان، لكنه يؤمن بأنه يجب توجيه السياح نحو مواقع أخرى "نحن مسلمون، يجب أن نتبع أوامر الله" هكذا صرح سرهادي للصحيفة الأميركية بينما يدافع عن تدمير تماثيل بوذا واعتبره "قرارا جيدا".
الآن، تباع التذاكر أمام تمثايل بوذا باميان العتيقة حيث يبلغ سعر التذكرة 58 سنتا للأفغان و3.45 دولارا للأجانب، وتخطط حكومة طالبان لإنشاء سوق جديد للهدايا التذكارية بالقرب من الجبل المحتضن لتمثالي بوذا.
في الجوار يوجد فندق رئيسي مزين بثريات ذهبية وامضة وأعلام اليابان وأستراليا وطالبان، مطل على ما بقي من التمثالين لكنه محاط بالأسلاك الشائكة. ويوجد بالقرب مركز ثقافي واسع، ولكنه فارغ. بالإضافة لمتحف تم بناؤه في سنين غياب طالبان عن السلطة بدعم خارجي لكن افتتاحه تأجل إلى أجل غير مسمى مع عودة الحركة الإسلامية وفقاً لمنظمة اليونيسكو التابعة للأمم المتحدة والتي تصنف الأماكن التاريخية في أفغانستان كمناطق معرضة للخطر.
الحفرة التي كانت تضم واحد من تمثالي بوذا في مدينة باميان الأفغانية. ويكيميديا
زار المنطقة الأثرية نحو ٢٠٠ ألف سائح خلال العام الماضي وفقاً لسيف الرحمن محمدي، مدير الإعلام والثقافة في حكومة طالبان الإقليمية. أغلب الزوار هم أفغان وينقسمون لقسمين إما جنود طالبان المتمركزين في مكان قريب أو أفغان متعلمون من المناطق الحضرية. ولكن سكان المنطقة يقولون بأن باميان كانت مزدهرةً أكثر في الأعوام السابقة على استيلاء طالبان على الحكم مجددا في 2021، حيث انخفضت إيرادات محال الهدايا التذكارية في المنقطة للنصف مقارنة بالسنوات الماضية.
تنظر حكومة طالبان لمدينة باميان باعتبارها ذات أهمية رمزية واقتصادية ومصدر دخل جيد في حال نجحت في استجلاب السياح المحليين والأجانب للمكان. بحسب مسؤولين في الإقليم، ينفق السائح الواحد نحو 57 دولارا في رحلة زيارة منطقة التماثيل البوذية العملاقة، التي تعتبر من أشد الأقاليم فقراً في أفغانستان.
هذا الدخل تستفيد منه الحركة التي تحكم دولة خاضعة لسلسلة عقوبات غربية إثر استيلاء طالبان على الحكم بما في ذلك تجميد أصول مالية في أميركا بحوالي 7 مليار دولار، وهو ما فاقم من مشاكل الفقر المدقع والبطالة العالية والجوع الشديد، حيث يروي أحد الآباء أنه يضطر لتخدير أبنائه الجوعى لمساعدتهم على النوم.
من ناحية أخرى ينظر قادة طالبان للآثار في باميان كأداة سياسية هامة لتصدير صورة إيجابية عن النظام الحاكم تظهره كنظام أكثر براغماتية مما كان عليه الحال في فترة حكم طالبان السابقة 1996-2001. ويرى مراقبون أن باميان تعد اختبارا لما إذا كان التراث الثقافي الغني في أفغانستان، والذي يتضمن أيضا المعابد والتحف الهندوسية، سينجو من عودة الحركة الإسلامية للحكم.
© 2025 blinx. جميع الحقوق محفوظة