صراعات
.
المشهد بدا غير اعتيادي، كما لو كان كرنفالاً. آلاف الإسرائيليين يرقصون بنشوة هائلة، على الرغم من الحداد الذي يعم البلاد منذ 7 أكتوبر، والسبب غزة.
خارطة عملاقة للقطاع وُضعت في مدخل القاعة، رقص أمامها أيضاً حشد من الإسرائيليين، مرددين شعارات تدعو إلى طرد سكان غزة واستبدال مستوطنين بهم.
لم تكن تلك فعالية عابرة لليمين المتطرف، بل مؤتمراً مفصلياً جمع أكثر من 12 وزيرا من حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، و15 عضو كنيست، وكبار قادة المستوطنين، وشخصيات اعتبارية وإعلامية وازنة.
فما قصة هذا المؤتمر؟ وهل يعبر عن سياسة رسمية أم مجرد "أقلية متطرفة" كما تزعم إسرائيل؟ ولماذا استاءت منه المعارضة وأهالي الأسرى؟
في مبنى الأمة بالقدس، عقدت مؤسسة نخالا الاستيطانية ومجلس السمراء الإقليمي للمستوطنين ليلة الأحد "مؤتمر الانتصار"، الذي جمع حشداً من مختلف الأطياف الإسرائيلية، لمناقشة مستقبل غزة بعد الحرب.
المؤتمر قدم خرائط وخططا تفصيلية وحججا قانونية واستراتيجيات لبناء مستوطنات إسرائيلية في القطاع المحاصر، عشية انتهاء الحرب، بما في ذلك أسماء تلك المستوطنات وأماكنها الدقيقة. ووُزعت على الحضور منشورات مفصلة لشوارع وأحياء غزة بأسماء عبرية جديدة.
وزير البناء والإسكان يتسحاق جولدكنوبف خاطب حضور مؤتمر الاستيطان في غزة، قائلاً "إن الله خلق العالم وله الحق في إعطاء أجزاء منه لمن يشاء. ولهذا السبب أمم العالم لا تستطيع أن تدعي أن اليهود اغتصبوا الأرض، فنحن ننفذ أمر الله".
"تشجيع الهجرة الطوعية" كانت الجملة الأكثر ترداداً على ألسنة الساسة في المؤتمر حول مستقبل سكان غزة، مثل وزير الأمن إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
وربما كانت هذه مجرد صيغة دبلوماسية للمناداة بالطرد بصورة غير مباشرة، لتجنب الاتهام بالتحريض على ارتكاب جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، بحسب القانون الدولي.
لكن مع ذلك لم يتوانَ وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو كاراي عن القول بصراحة تامة، إن إسرائيل يجب أن تجبر أهل غزة وتضغط عليهم إلى أن يختاروا ترك القطاع "طواعيةً".
دانييل فايس، إحدى قادات الحركة الاستيطانية وصفت أهل غزة بـ"الوحوش"، وتساءلت كيف يمكن أن "يهاجر الملايين من لاجئي الحرب من بلد لآخر في جميع أنحاء العالم، في حين فقط هؤلاء الوحوش يجب أن يظلوا مرتبطين بأرضهم؟".
المحامي وعضو حزب الليكود أفيعاد فيسولي كتب منشورا وزعه المنظمون على الحضور، قدم فيه رأياً قانونياً يبرر ما أسماه "النكبة الثانية" ويوفر لها مصوغات قانونية، بحسب الصحافي الإسرائيلي نير حسون.
وفي الوقت نفسه، قال الحاخام عوزي شرباف بأنه يجب التصرف مع الفلسطينيين مثلما فعل يوشع بن نون في التوراة مع "إبادة وترحيل أي شخص يعارض حكم شعب إسرائيل في أرض إسرائيل".
أما وزيرا الأمن والمالية بن غفير وسموتريتش فوقعا إلى جانب ستة من أعضاء الكنيست من الأحزاب الحاكمة على وثيقة أطلق عليها اسم "ميثاق النصر وتجديد الاستيطان"، التي تعهد الموقعون فيها بأنهم "سيعملون على تنمية المستوطنات اليهودية المليئة بالحياة" في قطاع غزة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صرح قبيل المؤتمر في إجابة عن سؤال صحافي يوم السبت بأن مجلس الحرب وحده من يقرر مستقبل غزة، في إشارة إلى أن المشاركين في المؤتمر لا يعبرون عن سياسة الحكومة الرسمية، على الرغم من وجود أكثر من 12 وزيرا.
ولم يدن رئيس الوزراء اليميني المؤتمر بصورة صريحة، كما لم يمنع أعضاء حزب الليكود الذي يترأسه من الحضور، مبرراً ذلك بأن لهم الحق في حرية التعبير.
جدير بالذكر أن نتنياهو نفسه قال في اجتماع وزاري في شهر ديسمبر بأنه يدفع نحو خطة لتهجير سكان غزة بصورة "طوعية"، وأنه يعمل على إيجاد دول موافقة على استقبالهم.
ولكن عندما رفعت جنوب أفريقيا دعوى إبادة جماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، تراجع نتنياهو عن تصريحاته وقال قبل انعقاد جلسة استماع المحكمة بليلة واحدة فقط، إنه ليست لديه نية لتهجير سكان غزة.
مشاهد مؤتمر استيطان غزة أثارت ردود فعل غاضبة في إسرائيل، ليس بسبب الاعتراض على فكرة تهجير سكان غزة، وإنما لرقص الوزراء والحضور بسعادة غامرة، في حين الحرب ما زالت مستعرة، فضلا عن استمرار احتجاز 136 أسيرا في غزة، ونزوح عشرات آلاف الإسرائيليين من الشمال والجنوب.
عائلات الأسرى بادروا إلى اعتبار المؤتمر "طعنة في القلب"، وقالوا إن الحاضرين فيه "رقصوا على الدماء"، وإن حديثهم عن استيطان غزة يدلل على عدم اكتراثهم بحياة الأسرى المحتجزين في القطاع.
وبعد الانتقادات السلبية بعدم مراعاة منظمي المؤتمر مشاعر عائلات الأسرى، قال عضو مجلس الحرب البارز ورئيس أركان الجيش السابق غادي آيزنكوت، إن هذا المؤتمر "يزيد من حدة الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، ويزيد من انعدام الثقة الحالي في الحكومة ومسؤوليها المنتخبين".
وتابع: "كل من شارك في الحدث، خاصة المسؤولين المنتخبين، لم يتعلموا شيئاً من أحداث العام الماضي، حول أهمية التحرك بإجماع وطني واسع، وتضامن داخل المجتمع الإسرائيلي".
وتوالت الانتقادات ضد نتنياهو، حتى من عضو مجلس الحرب ووزير الدفاع السابق بيني غانتس، بسبب التزامه الصمت بصورة كاملة منذ انعقاد المؤتمر، إذ قال غانتس "من يسكت فليس بقائد".
وسبب اعتراض غانتس هو خشية أن يضر المؤتمر بصورة إسرائيل عالمياً، بحسب يديعوت أحرونوت.
أما زعيم المعارضة ورئيس الوزراء السابق يائير لابيد، فقال إن صمت نتنياهو وعدم إدانته لأعضاء حزبه ممن حضروا كرنفال تهجير واستيطان غزة "كان له معنى واحد بصوت عالٍ: فليحترق البلد، الشيء الرئيسي هو أن يبقى نتنياهو في السلطة".
وأضاف لابيد: "مقاتلونا في غزة يتجمدون وهؤلاء يرقصون. مئات الآلاف من العائلات يشعرون بالذعر عند كل جرس باب، وهؤلاء يرقصون. لن نربح الحرب مع هذه المجموعة. مع هؤلاء الأشخاص لن نهزم حماس".
الصحافي نير جونتراس، قال إنه سيكون من الأسهل على حكومة نتنياهو تشجيع سكان إسرائيل على الهجرة الطوعية بحوافز مالية وإيجاد بلد مضيف، لأن الإسرائيليين ضاق بهم ذرعاً من تلك الحكومة والأوضاع المتردية في البلاد.
وأضاف جونتراس متهكماً بأن هناك حالة تنذر بأن استجابة الإسرائيليين للتهجير الطوعي ستكون أكبر من استجابة أهل غزة.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة