هل تكتب "باريس 2024" شهادة وفاة "الهدنة الأولمبية"؟

مع اقتراب كل أولمبياد صيفي أو شتوي، تبدأ كل دولة مستضيفة تحركات مكوكية مع الأمم المتحدة، مطالبة إياها بتطبيق الهدنة الأولمبية.

وتعني الهدنة الأولمبية مطالبة بوقف كل الحروب والقتال في كل العالم لمدة شهرين تقريبا، أي قبل 7 أيام من انطلاق الأولمبياد، وحتى مرور 7 أيام بعد ختام المسابقات البارالمبية.

ويتمثل الهدف القريب من ذلك، في السماح للرياضيين بالتنقل والسفر للمشاركة في العرس الأولمبي، أما الهدف غير المنظور هو أن تفعل الرياضة دورها الدبلوماسي في خلق جو من السلام والوحدة، يسهم فيما بعد في نهاية الأزمات والحروب.

وتاريخيا، يعود مفهوم الهدنة الأولمبية إلى القرن الـ8 الميلادي، الذي شهد مولدها تحت مسمى "إيكيتشيريا"، والذي هو مبدأ مقدس يطلب تعزيز السلام ووقف الحروب.

وفي 1993، أحيت الأمم المتحدة هذا التقليد، وطُبّق لأول مرة خلال أولمبياد ليلهامر الشتوية بالنرويج في 1994، إذ طالبت الأمم المتحدة كل الدول المتحاربة باحترام الهدنة الأولمبية.

خلال حفل افتتاح أولمبياد باريس، دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى "إسكات البنادق"، واحترام الهدنة الأولمبية.

وقال في مؤتمر صحافي مع رئيس اللجنة الأولمبية توماس باخ: "المعاناة المروعة في غزة، والحرب التي تبدو بلا نهاية في أوكرانيا، والمعاناة الرهيبة من السودان إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومن منطقة الساحل إلى ميانمار".

وأضاف: "في لحظة كهذه، من المهم أن نقول إن أول مبادرة سلام حقيقية مسجلة في التاريخ كانت الهدنة الأولمبية. حان الوقت لتذكير العالم بأهمية هذه الهدنة ولجعل العالم يفهم أننا يجب أن نسكت البنادق".

لكن، لم يمر كثير من الوقت على تفعيل الهدنة الأولمبية والمطالبة باحترامها، حتى تفاقمت الأمور، فبدلا عن توقف الحروب المحاور التي ذكرها، اندلعت جبهات جديدة، كما هو الحال في حادثة اغتيال هنية.

وبحسب وكالة أسوشيتد برس فإن ذلك يعود لكون الهدنة الأولمبية هي مجرد قيم بلا أنياب، إذ لا يعاقب أي طرف يقوم بخرقها، وهو أمر يعود وفقا للأستاذ بجامعة لندن، ج. سيمون روف، إلى افتقادها للقوة اللازمة.

رغم تعقيدات المشهد قبل افتتاح أولمبياد باريس، بدا رئيس اللجنة الأولمبية توماس باخ متفائلا، إذ قال في كلمته: "بمجرد دخولك إلى القرية الأولمبية تدرك كما أدرك أجيال من الرياضيين الأولمبيين قبلك، بأنك جزء من شيء أكبر، جزء من حدث يوحّد العالم".

لكن طموح اللجنة الأولمبية المعبر عنه في الافتتاح، سرعان ما انقلب إلى خيبة، بعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران، إذ بدت تصريحات المتحدث باسم اللجنة الأولمبية، مارك أدامز، بعد الحادثة، وكأنها بمثابة رفع المنديل الأبيض في ما يتعلق بسريان الهدنة الأولمبية.

وقال أدامز في تصريحات نقلتها أسوشيتد برس: "ثقافة السلام هي ما نحاول صنعه وتعزيزه، لكن في ما يبدو أننا غير قادرين على ذلك، يمكننا أن ندعو إلى السلام، لكننا على الأرجح لن نتمكن من تحقيقه".

وأضاف أدامز: "لا نستطيع أن نفعل إلا ما هو في مقدورنا، نحن منظمة رياضية. ولا يمكننا أن نمنع السياسيين مما يودون القيام به".

إحباط أدامز، بدا جليا أنه كان نتيجة لحادثة اغتيال إسماعيل هنية، والذي أدخل الجميع في حالة من الترقب بشأن رد إيراني مباشر على إسرائيل أو عن طريق وكلاء إقليميين، ما يعني مخاطر اشتعال حرب واسعة النطاق.

وما يؤكد ذلك، هو عدم تركيز اللجنة الأولمبية الدولية مع رفض روسيا للهدنة الأولمبية بمجرد تطبيقها من قبل الأمم المتحدة، بعد مطالبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بذلك وعرضه مقترح وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا خلال فترة الأولمبياد.

رغم كل التحديات، كانت اللجنة الأولمبية تراهن على إحداث اختراق من خلال أولمبياد باريس، وجعل صوت الوحدة والضمير الإنساني، أعلى من صوت الحروب والانقسامات.

ولا تبدو تلك مجرد أحلام، بقدر امتلاكها قابلية التحقق.

وفي ذات السياق، تقول ليندسي سارة كراسنوف، المحاضرة في جامعة نيويورك لأسوشيتد برس: "هل يمكن للرياضة توحيد الناس وتقريبهم من بعضهم البعض؟ نعم، هذا هو المثل الأعلى والطموح، عندما تنظر إلى الأمر، بشكل عام فإن للرياضة هذه القوة".

وأضافت: " نعم لا يمكن أن تقوم الألعاب الأولمبية مباشرة بإيقاف حروب وصراعات العالم، لكنني أعتقد أن ما يمكنه فعله هو توفير أجواء لإجراء محادثات توافق".

ويكمن أخطر انعكاس لواقعة الاغتيال على اللجنة في حدوثه منتصف الأولمبياد، وهو أمر لم تعهده الألعاب الأولمبية من قبل.

ومنذ إعادة إحياء الهدنة الأولمبية، لم تقع أحداث عنف ضخمة بهذا الحجم خلال الأولمبياد، فيما كانت حتى الصراعات المشتعلة، تخفت نوعا ما، رغم عدم توقفها تماما، ما قد يعني في سياق أشمل تحرير شهادة وفاة للهدنة الأولمبية.

أما الخطر الثاني، فيتعلق بمخاوف اللجنة الأولمبية من انتقال أثر الاغتيال إلى أولمبياد باريس، وهنا تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية، الجمعة 2 أغسطس، عن وجود مكافآت لقتل وخطف رياضيين من بعثة إسرائيل في باريس مقابل 40 ألف يورو.

وربطت صحيفة تايمز أوف إسرائيل التهديدات الحالية، وأيضا التصعيد الأخير بعد اغتيال هنية، بإمكانية تكرار سيناريو "عملية ميونخ".

وتعود قصة العملية إلى أولمبياد 1974 التي استضافتها مدينة ميونخ الألمانية، إذ قام 8 مسلحين فلسطينيين ينتمون إلى منظمة أيلول الأسود، بتسلق السياج المحيط بالقرية الأولمبية في ميونيخ وهم متنكرون في زي رياضي، قبل أن يحتجزوا رهائن من البعثة الإسرائيلية.

وطالب المسلحون بإطلاق سراح أكثر من 200 فلسطيني معتقلين في السجون الإسرائيلية، وإطلاق سراح أندرياس بادر وأولريك ماينهوف من الجيش الأحمر المعتقلين في السجون الألمانية وتوفير طائرة لنقلهما إلى وجهة آمنة في الشرق الأوسط، بحسب بي بي سي.

ورغم رضوخ السلطات الأمنية الألمانية للمطالب، إلا أنهم نصبوا لهم كمينا في المطار، ليحدث إطلاق نار انتهى بمقتل 11 رياضيا إسرائيليا، وشرطي ألماني، و3 أشخاص من منظمة أيلول الأسود.

يذكر أنه قبل انطلاق أولمبياد باريس 2024، كانت وسائل إعلام إسرائيلية قد حذرت من تكرار ما جرى في ميونخ 1972، في ظل الأوضاع في غزة، وردود الأفعال تجاهها، هذا قبل أن ينضاف إليها اغتيال إسماعيل هنية.