متطرفون يحاصرون مالي.. وقود الحرب يتحول إلى سلاح سياسي
في قلب الساحل الأفريقي، حول المتطرفون الوقود إلى سلاح أشد فتكا من الرصاص. فمنذ مطلع سبتمبر، تخنق جماعة مرتبط بالقاعدة، المعروفة أيضا بـ JNIM، شرايين مالي بحصار محكم على المحروقات، في ما يشبه عملية "إحراق بطيء للدولة".
في ظل تحول الوقود إلى أداة لإسقاط النظام، تعطلت المدارس والمستشفيات وتوقفت الكهرباء في عاصمة يبلغ عدد سكانها ٣ ملايين نسمة، بحسب تقرير
Ouest-France، . ومع تسارع الانهيار، دق الاتحاد الأفريقي وفرنسا وسائر العواصم الكبرى ناقوس الخطر، محذرين من أنّ مالي تقف على حافة هاوية جيوسياسية تمتد تداعياتها إلى المنطقة بأسرها.
فرنسا تدعو رعاياها للمغادرة
وفقا لتقارير
BFMTV و
Ouest-France، أوصت باريس مواطنيها بـ "مغادرة مالي في أسرع وقت ممكن"، مشيرة إلى أنّ "الطرقات الوطنية تشكل هدفا مباشرا لهجمات الجماعات الإرهابية"، وأنّ "الأوضاع الأمنية تتدهور منذ أسابيع حتى في العاصمة باماكو".
وتؤكد الخارجية الفرنسية أنّ السفر إلى مالي "ممنوع بشكل صارم أيا كان السبب"، في ظل تزايد حوادث العنف وتحول طرق الإمداد إلى مسرح كمائن دامية.
ولم يقتصر التحذير على فرنسا، إذ سبقتها أو لحقتها كل من ألمانيا، الولايات المتحدة، المملكة المتحدة وكندا، وسط حديث متزايد عن نقص الوقود وعدم إمكانية تأمين حركة النقل.
وفي موقف لافت، أعرب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي محمود علي يوسف عن "قلق عميق" إزاء الوضع، محذرا من أنّ الحصار المفروض على الوقود "يضرب المدنيين الأبرياء" وأنّ الوضع "يتدهور بوتيرة مقلقة"، داعيا إلى "استجابة دولية متماسكة وقوية" لمواجهة الانفلات الأمني في مالي ومنطقة الساحل.
ماذا يحدث على الأرض؟ اقتصاد مشلول ودولة تختنق
بحسب Ouest-France وBFMTV، بدأ الحصار في مطلع سبتمبر 2025 عندما أعلن المتحدث باسم "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" المتطرفة، أبو حمزة البنبري الملقب محليا بـ "نابي" أو "بينا ديارا"، فرض حصار على الوقود المتجه إلى باماكو. ومنذ ذلك الحين، ومع انقطاع الإمدادات القادمة من السنغال وساحل العاج، أصبحت العاصمة "مختنقة"، وتحوّلت معظم مناطق مالي إلى مساحات معزولة.
أُغلقت المدارس والجامعات لأسبوعين، وتوقفت الأنشطة الاقتصادية، وقفزت أسعار البنزين والغاز إلى الضعف في السوق السوداء، بينما بات المزارعون عاجزين عن الحصاد بسبب نقص الوقود. وفي مواجهة هذا الشلل، دعا رئيس الوزراء المالي عبد الله مايغا المواطنين إلى "ترشيد الاستهلاك"، فيما اكتفى رئيس المجلس العسكري أسيمي غويتا بحثهم على "تقليل التحركات غير الضرورية".

حصار الوقود.. مالي تختنق والجهاديون يمسكون برقبة الدولة (أ.ف.ب)
لكن واقع الدولة يختلف عن خطاب السلطة. فبحسب تقرير
Le Monde، "لا تسيطر الحكومة على أي شيء خارج نطاق ضيق حول العاصمة"، بينما تركز القوات على حماية النظام بدلا من حماية البلاد.
وانفجرت شرعية المجلس العسكري، بعدما أدّى فشله الأمني، وسياساته الاستبدادية، وتحالفه مع مجموعة "فاغنر" سابقا، ثم Africa Corps، إلى انهيار الثقة الشعبية.
كيف ينفذ المتطرفون هجماتهم؟
بحسب Ouest-France، يعتمد عناصر جماعة JNIM في حصارهم على استهداف صهاريج الوقود نظرا لطبيعتها القابلة للاشتعال السريع، مما يجعل من أي إطلاق للنار كارثة محققة.
وبحسب التقرير، تجد القوافل التي تتحرك تحت حماية الجيش المالي نفسها عاجزة عن اختراق الكمائن. والقوافل تبقى "أهدافا سهلة"، ما أدى إلى مقتل العديد من السائقين، بينما تتكتم السلطة على الأرقام.

حصار الوقود.. مالي تختنق والجهاديون يمسكون برقبة الدولة (أ.ف.ب)
ويقول الخبراء إن طبيعة الحرب غير المتكافئة تمنح المتطرفين تفوقا، إذ تكفي "عشرات قليلة من المقاتلين" للسيطرة على نقاط استراتيجية وقطع طرق حيوية.
أهداف استراتيجية تتجاوز الوقود
بحسب الأمم المتحدة، فإن جماعة JNIM هي "الجماعة المتطرفة الأكثر تأثيرا في الساحل".
وتؤكد تقارير Ouest-France وBFMTV أنّ هدف الجماعة يتجاوز مجرد الضغط الاقتصادي، فهي تسعى إلى تقويض الدولة، فرض الشريعة، وإظهار نفسها كبديل حاكم في المناطق الريفية عبر "اتفاقات محلية" وتحصيل الضرائب وتقديم الحماية.
ويرى رئيس الاستخبارات الخارجية الفرنسية نيكولا ليرنر، وفقاً لتقرير منشور على
Seneweb: "الجماعة تريد إسقاط الحكومة الإنقلابية لإقامة كيان يشبه الخلافة في جزء أو كل مالي"، وهي لا تطمح إلى حكم كامل البلاد بل إلى "فراغ سلطوي يسمح بتمدد نفوذها".

حصار الوقود.. مالي تختنق والجهاديون يمسكون برقبة الدولة (أ.ف.ب)
بينما تتفاوت التحليلات بين التشاؤم والحذر، هناك إجماع واضح: سقوط باماكو "غير مرجّح حاليا".
بحسب محللين في BFMTV، لا تملك جماعة JNIM القدرات العسكرية للسيطرة على العاصمة، لكن "التهديد غير مسبوق". كما يرى الخبير تشارلي وِرب أنّ "الجماعة على وشك القدرة على الإمساك بالبلاد لو أرادت". ومع ذلك، يشير محللون آخرون إلى أنّ المتطرفين أنفسهم لم يتوقعوا حجم التأثير الهائل لحصارهم.
وبالنظر إلى تاريخ الجماعة منذ تأسيسها عام 2017، لا يوجد أي دليل على نيتها أو قدرتها على إدارة العاصمة أو تسيير الدولة، بل تعتمد على أساليب حرب العصابات والدعاية.
يحذر الباحث عليون تين من أنّ "الاستراتيجية الخانقة" قد تؤدي إلى "انهيار الدولة المالية"، وهو سيناريو ستكون له "عواقب كارثية" على الساحل برمته.
وبحسب مركز
Soufan Center، فإن سقوط مالي سيشعل سلسلة من الانهيارات في بوركينا فاسو والنيجر وهما دولتان تحكمهما أيضا مجالس عسكرية هشة، في الوقت الذي تشير فيه Le Monde إلى أن استمرار تدهور الوضع سيحول مالي إلى "أفغانستان أفريقية"، ويهدد 25 مليون شخص، خاصة النساء.