دبلوماسية
.
قبيل الصعود إلى الطائرة التي سوف تقله إلى السعودية المحطة الأولى في جولته الخليجية التي تشمل الإمارات وقطر أيضاً، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انه "ليس منغلقاً" على لقاء الرئيس السوري بشار الأسد، وذلك بالتزامن مع التحضيرات لزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة، في حراك دبلوماسي متسارع يكشف حدة الانعطافة التركية نحو العالم العربي.
لا يُخفي أردوغان أن الاقتصاد يشكل الأجندة الأساسية لجولته الخليجية التي يأمل في نهايتها جمع استثمارات تصل قيمتها إلى 25 مليار دولار، لكن التفاصيل الاقتصادية في الداخل التركي تكشف عما هو أعمق من الحاجة للاستثمارات، بل "الأموال الساخنة" التي يأمل من خلالها الرئيس التركي أن يدعم على وجه السرعة احتياطات البنك المركزي المتداعية والتي وصلت صافي قيمتها إلى أقل من الصفر في أسوأ مؤشر اقتصادي تصله البلاد منذ وصوله الحكم قبل نحو 20 عاماً.
منذ فوزه بالانتخابات الرئاسية مايو الماضي وضع أردوغان على رأس أولوياته مساعي تحسين الوضع الاقتصادي للدولة، وبالتالي المواطنين، الذين يكتوون بلهيب الأسعار المتصاعدة بشكل جنوني إلا أن التحديات والمعطيات الاقتصادية كانت أعقد وأصعب بكثير من أن تساعده في تقديم أي مؤشرات إيجابية سريعة وتحقيق وعوده الانتخابية، بل على العكس تماماً شهدت الأسعار موجة جديدة من الارتفاع أثارت حالة من الصدمة والغضب العارم في صفوف المواطنين بما فيهم أنصار أردوغان ومن انتخبوه قبل أسابيع قليلة.
وحتى قبل يوم واحد من بدء جولته الخليجية رفعت الحكومة الضرائب على أسعار الغاز المنزلي إلى قرابة 250 بالمئة ورفعت الضرائب على المحروقات بنسبة قاربت الـ300 بالمئة وذلك في محاولة لزيادة إيرادات الحكومة التي تعاني خزينتها من نقص حاد نتيجة المصروفات الهائلة التي جرت أثناء الحملة الانتخابية لتعزيز فرص فوز أردوغان إلى جانب الفاتورة الباهظة جداً للزلزال المدمر الذي ضرب 10 محافظات في جنوب البلاد وأدى لخسائر اقتصادية تقدر بعشرات مليارات الدولارات.
وفي أحدث مؤشر لحجم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، كشفت الأرقام الرسمية الثلاثاء عن أن ميزانية الحكومة التركية سجلت أعلى معدل عجز شهري في التاريخ على الإطلاق حيث سجل شهر يونيو عجزاً بقيمة 219.6 مليار ليرة تركية، وبالتزامن مع ذلك عمم وزير الاقتصاد التركي محمد شيمشيك على كافة الوزارات بضرورة تقليص المصاريف بشكل حاد وهو ما اعتبر بمثابة بداية لتطبيق سياسة تقشف لأول مرة في عهد أردوغان الذي أصر طوال العقدين الماضيين على زيادة المصروفات من أجل تحقيق أرقام نمو عالية ظل يتفاخر فيها عالمياً من خلال المشاريع الكبرى التي يبدو أنها ستتوقف لفترة ولن يجد أردوغان مزيدا من الجسور والمطارات والمشاريع الكبرى ليفتتحها كما اعتاد على ذلك لسنوات طويلة بشكل شبه يومي.
لا تتمثل حاجة أردوغان في المرحلة الحالية في التوصل إلى خطط واتفاقيات اقتصادية تقليدية أو اتفاقيات استثمارية تظهر نتائجها على المديين المتوسط والبعيد، وإنما هناك حاجة عاجلة جداً لـ"الأموال الساخنة" أي مليارات الدولارات التي تأتي فوراً على هيئة أموال مباشرة يتم ايداعها في البنك المركزي لوقف النزيف الحاد في قيمة العملية التركية والتي وصل سعر صرفها إلى 26 ليرة تركية مقابل الدولار الأمريكي الواحد، فكان الحل في بيع الأصول.
أوفد أردوغان طوال الأسابيع الماضية وفوداً اقتصادية مختلفة لدول خليجية لعرض بيع بعض الأصول التي قالت وكالة رويترز إنها ستتيح لأردوغان جني قرابة 25 مليار دولار في جولته الخليجية، لكن هذا الملف يحمل في طياته مخاطر كبيرة جداً على أردوغان في الداخل التركي في ظل الاتهامات من قبل المعارضة للرئيس باللجوء إلى بيع أصول الدولة للتغطية على "فشل السياسات الاقتصادية"، وهو ما أعاد إلى الأذهان الجدل الذي استمر لسنوات طويلة على خلفية بيع أردوغان جانب من أصول شركة للصناعات الدفاعية كانت تتولي برنامج صناعة الدبابة التركية الوطنية لقطر ما جلب الكثير من الضرر الإعلامي لأردوغان.
وتعقيباً على الاتهامات التي بدأت مبكراً قبيل جولته الخليجية دافع أردوغان عن الخطوة بالقول إن السعودية وقطر والإمارات ستتاح لهم فرص شراء أصول معينة من تركيا، مشدداً على أنه "نحن نعلم جيدا ما ينبغي وما لا ينبغي أن يباع بما يراعي مصالح البلاد"، وهي تصريحات زادت من هجوم المعارضة عليه حتى قبيل التوقيع على هذه الاتفاقيات.
راكمت سنوات من الاضطرابات السياسية والتدخلات العسكرية في دول الجوار والسياسات الاقتصادية المضطربة نتائج سلبية على الاقتصاد التركي الذي وصل إلى أسوأ مرحلة له على الإطلاق في عهد أردوغان الممتد على مدى 20 عاماً وكاد أن يبدد حظوظه بالفوز بالانتخابات الرئاسية لولا تفتت المعارضة وفشلها في تقديم مرشح قادر على مواجهة الرئيس المخضرم الذي نجح بالفوز بصعوبة في الجولة الثانية.
ومن هذا المنطلق، بدأ أردوغان حراكاً دبلوماسياً واسعاً كان أبرز عناوينه إنهاء الخلافات السياسية مع الدول العربية وبشكل خاص دول مجلس التعاون الخليجي، وتباعاً نجحت الدبلوماسية التركية في إعادة تطبيع العلاقات وتطويرها مع الإمارات والسعودية ودول أخرى.
وإلى جانب الخليج، عمل أردوغان على إعادة تطبيع العلاقات مع مصر، وصولاً للإعلان الرسمي قبل أيام عن إعادة تبادل السفراء بين البلدين، وبدء الاتصالات الرسمية من أجل ترتيب زيارة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة وهو نفسه الرئيس الذي هاجمه أردوغان سابقاً وقال إنه لن يلتقيه على الإطلاق.
السيسي لم يكن الرئيس الوحيد الذي تعهد أردوغان بعدم لقاءه، فالرئيس السوري بشار الأسد هاجمه أردوغان على مرار السنوات الماضية وتعهد أمام شعبه والعالم انه "لن يلتقيه أبداً"، قبل أن تبدأ الاتصالات الدبلوماسية بين البلدين بعد أشهر من الاتصالات على مستوى المخابرات وصولاً لتأكيد أردوغان الاثنين أنه "غير منغلق" على لقاء الرئيس السوري إلا أنه اشتكى من حدة الشروط التي يضعها الأسد من أجل تحقيق اللقاء الذي تتوسط روسيا منذ أشهر لعقده.
ولي العهد السعودي مستقبلا أردوغان
كل الخطوات المتسارعة التي يقدم عليها الرئيس التركي في الأشهر الأخيرة تصب جميعها نحو تحقيق استراتيجية العودة لسياسة صفر مشاكل والتي خلص أردوغان أنها الطريق الوحيد لتحسين الوضع الاقتصادي بعدما أدت سياسات التدخل العسكري والخلافات السياسية إلى استنزاف الاقتصاد التركي وايصاله إلى ما وصل إليه في السنوات الأخيرة.
وبالتوازي مع إنهاء الخلافات مع دول العالم العربي لإنهاء الاستنزاف المالي المتواصل للتواجد العسكري في سوريا والعراق وليبيا والصومال وغيرها من المناطق، تهدف هذه الخطوات لفتح آفاق اقتصادية جديدة بعد "خطة الإنقاذ" الأولوية بالحديث عن مشاريع استراتيجية لتعزيز نقل البضائع من تركيا للخليج براً وبحراً وتقليص مدة التجارة العالمية وجذب استثمارات كبيرة.
فتركيا لم تفقد على الإطلاق عوامل قوتها الأساسية المتمثلة في موقعها الجيوسياسي الهام والاقتصادي المحوري للتجارة العالمية إلى جانب فرص قوة النظام البنكي والبنية التحتية ورخص الأيدي العاملة وغيرها من العوامل الجاذبة للاستثمارات التي ستوفر أرضية مشتركة لإعادة الازدهار الاقتصاد للمنطقة في حال نجحت تركيا بالفعل في إخماد فتيل كافة الخلافات السياسية مع دول المنطقة وفتح صفحة جديدة عنوانها التعاون الاقتصادي والازدهار وكثير من المليارات بدلاً من الكثير من الأعداء.
ووصل أردوغان إلى الإمارات، الأربعاء، في إطار جولته الخليجية، وأبوظبي هي آخر محطات الرئيس التركي التي شملت مدينة جدة السعودية والعاصمة القطرية الدوحة.
وتشهد العلاقات الإماراتية - التركية دفعة قوية نحو مسارات جديدة من النمو المستدام والازدهار الاقتصادي توجت بتوقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين البلدين والتي تتيح العديد من الفرص التجارية والاستثمارية، بحسب وكالة أنباء الإمارات (وام).
وفي مارس الماضي وقعت الإمارات وتركيا اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بينهما، خلال قمة رئاسية عبر تقنية الاتصال المرئي، عقدها رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وأردوغان، وهي الاتفاقية التي جرى التصديق عليها رسمياً من حكومتي الدولتين تمهيداً لتفعيلها ودخولها حيز التنفيذ.
ودشنت الاتفاقية حقبة جديدة من الشراكة والتكامل الاقتصادي منطلقة من قاعدة صلبة من العلاقات التجارية والاستثمارية الوطيدة، إذ ارتفعت التجارة البينية غير النفطية بنسبة 40% لتبلغ قيمتها 18.9 مليار دولار في عام 2022 ما يجعل تركيا أحد أكبر 10 شركاء تجاريين لدولة الإمارات حول العالم بحصة تبلغ أكثر من 3% من التجارة الخارجية غير النفطية للدولة.
ووصل إجمالي حجم الاستثمارات الإماراتية في تركيا إلى نحو 7.8 مليار دولار نهاية العام 2021 في قطاعات متنوعة شملت الخدمات المالية والعقارات والنقل والمواصلات والطاقة المتجددة والموانئ والخدمات اللوجستية.
وفور دخول اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة حيز التنفيذ، سيتم بموجبها إلغاء أو تخفيض الرسوم الجمركية على 82% من المنتجات والسلع وهو ما يمثل أكثر من 93% من قيمة التجارة الثنائية غير النفطية، إلى جانب إزالة الحواجز غير الضرورية أمام التجارة وخلق مسارات جديدة لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الثنائية، وتعزيز وصول المصدرين المحليين إلى الأسواق بما في ذلك القطاعات الرئيسية مثل البناء والمنتجات المعدنية والبوليمرات والمنتجات الصناعية الأخرى.
وتهدف الاتفاقية إلى زيادة التجارة البينية غير النفطية من قيمتها الحالية التي تبلغ 18.9 مليار دولار إلى أكثر من 40 مليار دولار سنوياً في غضون 5 أعوام وزيادة الصادرات الإماراتية إلى تركيا بنسبة 21.7% وزيادة تدفقات الاستثمار في القطاعات الرئيسية مثل الخدمات اللوجستية والتجارة الإلكترونية والأمن الغذائي والطاقة المتجددة.
وفي المملكة وقع الطرفان اتفاقيات تعاون في مجالات استثمارية ودفاعية أبرزها شراء المملكة طائرات مسيّرة تركية.
وذكرت "واس" أنّ الطرفين وقّعا ثلاث مذكرات تعاون في مجالات الطاقة والاستثمار المباشر والتعاون الإعلامي، وخطة تنفيذية للتعاونِ في مجالات القدرات والصناعات الدفاعية والأبحاث والتطوير وعقدين مع شركة "بايكار للتكنولوجيا" للصناعات الدفاعية والجوية، لاسيما الطائرات المسيّرة.
وكتب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان على تويتر صباح الثلاثاء أنّه وقع "عقدَي استحواذ بين وزارة الدفاع وشركة بايكار التركية للصناعات الدفاعية، تستحوذ بموجبهما وزارة الدفاع على طائرات مسيَّرة؛ بهدف رفع جاهزية القوات المسلحة، وتعزيز قدرات المملكة الدفاعية والتصنيعية".
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة