انتخابات
.
ماذا يريد البريطانيون بالضبط؟ الخروج من الاتحاد الأوروبي أم العودة إليه؟ هذا السؤال حيرت إجابته المراقبين لعقود، حتى أن المواطن البريطاني على ما يبدو لا تستقر نفسه على رأي معين تجاه ذلك الاتحاد. تاريخياً، كانت الرغبة في الخروج من الاتحاد والبقاء فيه متقاربتين إلى حد كبير منذ عام 1977، مع تأرجح بعض الأصوات بين المعسكرين في بعض الأحيان لترجّح كفة فريق ضد آخر.
استمر هذا الحال حتى العام 2016، حين صوت 52% من الشعب البريطاني بشكل رسمي على مغادرة الاتحاد، وتم بالفعل هذا الانفكاك عن أكبر تكتل اقتصادي في العالم عام 2020. لكن مشاعر الندم على ما يبدو سرعان ما تغلغلت في صفوف مواطني المملكة المتحدة، عندما أظهر آخر استطلاع رأي أن نحو 57% من البريطانيين يعتقدون مغادرة الاتحاد كانت قراراً خاطئاً، مقابل نحو 32% فقط ما زالوا يؤيدون الاستغناء عن القارة العجوز، بحسب ما نقلته وكالة رويترز.
علاوة على ذلك، قال 12% فقط من البريطانيين إن بريكست كان ناجحاً، مقابل 63% يعتقدون فشل تلك السياسة، وهي أرقام قياسية في كراهية انسحاب الجزر البريطانية من الحضن الأوروبي. ما يؤجج مشاعر البغضاء تجاه مغادرة الاتحاد هو أن الثمار التي وعد بها مروجو فكرة الانسحاب لم تؤت أكلها بعد، وسط تباطؤ الاقتصاد البريطاني عن نظرائه من الاقتصادات المتقدمة وتهالك منظومة الرعاية الصحية NHS.
بعد محاولتين فاشلتين لبريطانيا للانضمام للمجموعات الأوروبية في 1963 و1967 (الكيان الذي سبق الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي)، نجحت المملكة المتحدة في الدخول إلى التكتل الأوروبي عام 1973. إلا أن نحو 41% من البريطانيين أرادوا الرحيل من الاتحاد بعد أقل من عامين من الانضمام، مقابل 33% ممن أرادوا البقاء بحسب استطلاعات الرأي التي لخصتها صحيفة ذا كونفرزيشن. ولكن عند عقد أول استفتاء شعبي رسمي حول مصير عضوية المملكة في المجموعات الأوروبية، غيّر البريطانيون رأيهم، وصوت ثلثي السكان للبقاء بعد دعم جميع قادة الأحزاب الكبرى ذلك التوجه.
جلسة إبلاغ الوفد البريطاني قرار رفض عضويتهم الكاملة في السوق الأوروبية المشتركة يونيو ١٩٦٣. أ ب
بعد أربعة أعوام، في العام ١٩٧٨، غير البريطانيون رأيهم مرة أخرى، وصار نحو 60% منهم ينادون بالرحيل مقابل 32% أبدوا رغبة في البقاء. وفي العام التالي، ارتفعت نسبة كارهي التجمع الأوروبي لتصل 65% عندما تولت مارغريت ثاتشر رئاسة الوزراء.
مع تعاظم قوة بريطانيا في المجموعات الأوروبية، وتمكن حكومة ثاتشر من الحصول على مزايا مالية كبيرة من الاتحاد ارتفعت نسبة مؤيدي البقاء في الحضن الأوروبي لنحو 47% مقابل 39% ممن آثروا الرحيل عام 1987.
مع تشكيل الاتحاد الأوروبي رسمياً عبر معاهدة ماستريخت في بداية تسعينات القرن الماضي، استمرت التقلبات المزاجية في الشارع البريطاني لعقدين من الزمن حيال تواجد بلادهم في الاتحاد، لكن مع تقارب في النسب المئوية بين الفريقين.
رئيسة الوزراء السابقة مارجريت ثاتشر في نهاية عهدها السياسي عام ١٩٩٠. أ ب
وظهر التخوف والتشكك البريطاني في الاتحاد الأوروبي جلياً عندما رفضت المملكة المتحدة الانضمام لمنطقة الشنغن أو اعتماد اليورو كعملة محلية رسمية، وهو ما عكس المزاج البريطاني الذي يتوق لزمن الهيمنة البريطانية على العالم بدلاً من تقبل الهوية الأوروبية الجماعية.
الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، والتي عصفت ببعض اقتصادات الدول الأعضاء كاليونان والبرتغال وإيطاليا وإيرلندا، رفعت من منسوب العدائية في الشارع البريطاني تجاه وجود المملكة المتحدة في الاتحاد وتحملها أعباء تلك الدول، هذا بالإضافة لأكبر عملية توسعة للاتحاد الأوروبي عام 2004 بعد انضمام قبرص والتشيك وإستونيا والمجر ولاتفيا وليتوانيا ومالطا وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا للتكتل الأوروبي، وقد زاد هذا التوسع الكبير من مخاوف هجرة مواطنين من دول أوروبا الشرقية لمنافسة البريطانيين على وظائفهم.
باص أحمر اللون جاب شوارع بريطانيا عام 2016 مكتوب عليه "إننا نرسل للاتحاد الأوروبي 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعياً"، وأنه من باب أولى أن تذهب تلك الأموال للمؤسسة الصحية NHS. كان هذا أحد أبرز وجوه حملة بريكست لمغادرة الاتحاد على الرغم من عدم دقة هذه المعلومة.
لطالما استخدم السياسيون البريطانيون الأتوبيسات في حملاتهم الدعائية والانتخابية، لكن حملة بريكست كانت الأشرس على الأتوبيسات. أ ب
لكن موضوع الهجرة كان المسألة المفصلية في حسم الأصوات الشعبية في الاستفتاء بحسب أحد أكبر استطلاعات الرأي آنذاك، وكان أحد أهم تلك المخاوف هو انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، حيث أشاع مناصرو بريكست بأن ذلك يعني قدوم 80 مليون تركي للعيش بين البريطانيين.
بالإضافة لذلك، قطع أنصار بريكست نحو 15 وعدا انتخابيا على أنفسهم بأن يساهم خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي في خفض الأسعار ورفع الرواتب وإعطاء سيادة أكبر لبريطانيا فيما يتعلق بإدارة مواردها الزراعية والمائية وانتعاش التجارة البريطانية المباشرة مع العالم، ورفع الإنفاق على الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي. ولكن أغلب تلك الوعود لم تتحقق إبان خروج بريطانيا من الاتحاد بحسب صحيفة بوليتيكو. ووصل الأمر بأن قام نايجل فاراج أحد أبرز زعماء حملة مغادرة الاتحاد بالإقرار بفشل بريكست في شهر مايو الماضي.
يعاني البريطانيون من أزمة اقتصادية غير مسبوقة. أ ب
نقض الوعود، هو السبب وراء الإحباط الذي يخيم على الكثير من البريطانيين اليوم مع ارتفاع التضخم لمستويات قياسية في البلاد، وانخفاض ثروات البريطانيين بأسرع معدل منذ الحرب العالمية الثانية، ونقص حاد في الأيدي العاملة كسائقي الحافلات وعمال السباكة، بالإضافة لنفاد بعض المنتجات الغذائية عن الأرفف في محال البقالة، وطوابير الانتظار الطويلة لتلقي العلاج، وتضرر قطاعي الصيد والزراعة وقائمة طويلة من المشاكل الأخرى التي لم يحلها الخروج، وإنما فاقمها.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة