محسن يغذّي العقول.. مكتبة مجانية وسط حرب السودان

"اقرأ وغيّر من حولك، المعرفة بالقراءة المجانية". تحت هذه اللافتة المكتوبة بخط اليد على قصاصة من القماش، يجلس محسن محمد، وهو يستقبل زواره بابتسامة عريضة، قبل أن يقدم لهم الكتب "لكل شخص اهتماماته في القراءة".

طوال ساعات النهار يظل محسن مشغولاً بالتنقيب في ثنايا الكتب المرصوصة على طاولة خشبية، في عمليات بحث عن عناوين تناسب كل واحد من رواد مكتبته، بعد أن وفّر لهم كراسي للجلوس، وجميع هذه الخدمات مجانية دون أي مقابل مالي.

"أخطط لربح وطن معافى بالمعرفة ورفع الوعي المجتمعي"، يقول محسن لبلينكس، ولقناعته بأن كل العنف والاضطراب الذي تشهده بلاده، لا سيّما الصراع بين المكونات الاجتماعية، كان نتيجة حتمية لقلة الوعي والثقافة.

المكتبة جذبت البنات أيضاً، بعد أن كان صاحبها متخوّفاً من ذلك في بداية الأمر؛ نظراً لتعقيدات اجتماعية في المنطقة تتحفظ على الاختلاط بين الرجال والنساء في مكان واحد، وهو ما اعتبره محسن نجاحاً باهراً لمشروعه التوعوي.

محسن يؤمن بأن المال مهما كثر، فإنه ذاهب، وتكون فائدته محدودة على الشخص الذي يمتلكه، لكن العلوم والمعارف تبقى ويمكنها تغيّير واقع الجميع للأفضل، وهو ما يرغب تحديداً في تحقيقه.

عندما نشبت الحرب في السودان منتصف أبريل 2023، كان محسن قد تخرج توّا في الجامعة، حينها راودته فكرة تأسيس مكتبة لسد فراغ الشباب ونقلهم من حالة اليأس الناجم عن استمرار القتال، إلى رحاب الأمل في الحياة عن طريق القراءة.

نقل مكتبته الخاصة من المنزل إلى سوق موقف الجنينة الأكثر زخماً في مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، وهو غير مكترث لنيران القتال المشتعلة من حوله، متشبثاً بهدفه في نشر المعرفة.

لم تكن الكتب كافية، ففكر محسن في مشروع محدود لتربية الأغنام، وفي غضون شهرين حقق أرباحاً معقولة ما ساعده في توسيع مكتبته لتتجاوز 400 كتاب، تشمل الفكر والأدب والاقتصاد والقانون، والفلسفة.

لم يتوقف طموح محسن محمد عند هذا الحد، لكنه يأمل بتوسعة مشروعه، لتكون هناك مكتبات مجانية في كل أنحاء السودان للتشجيع على القراءة ورفع وعي الناس.

يقول "كنت فقط صاحب هذه الفكرة ولست مالكها، وندعو الشباب كلهم إلى استلهام هذه التجربة وعمل مكتبات مجانية لمساعدة الناس على الاطلاع، الذي بموجبه يمكن إحداث التغيير الإيجابي المطلوب"، وفق وصفه.

ويمنّي محسن نفسه بأن تحمل أيادي الناس في وطنه الكتب بدلاً من البنادق، وكل آلات العنف والقتل، وهو أمر ليس صعباً إذا توفرت الإرادة للقراءة والتعلم.

طلحة عبدالله، هو أحد الشباب الذين لم ينقطعوا يوماً عن زيارة المكتبة المجانية منذ تأسيسها، فهي بالنسبة له ملاذ آمن لتناسي مرارات الحرب، قبل كسب المعارف المختلفة.

يقول طلحة إنه مُحبّ للقراءة، ولكن ظروفه المادية لم تسمح له بشراء كل الكتب المفضّلة بالنسبة له، فتحصّل على العديد منها في المكتبة المجانية في مدينة نيالا.

ويضيف "لقد أحدثت هذه المبادرة فارقاً في حياتي بعد كسبي لكثير من المعلومات من خلال القراءة المباشرة، والنقاشات مع رواد المكتبة المجانية".

إسحاق آدم هو الآخر من زوار المكتبة المجانية، وهي شكّلت له فرصة البقاء تحت بيئة تعليمية، بعد أن أُغلقت جامعته لأشهر بسبب الحرب الدائرة في البلاد منذ منتصف أبريل.

يشعر آدم الذي تحدث إلى بلينكس، بامتنان شديد إلى محسن، صاحب المبادرة لكونه تمكن من سد الفراغ الأكاديمي الواسع عقب إغلاق المدارس والجامعات، ورفع حالة الإحباط عن مئات الطلاب.

وتوقفت العملية التعليمية في السودان لمدة عام كامل وما تزال نتيجة الحرب، مما وضع مستقبل ملايين الطلاب على حافة الضياع، بينما تسعى مبادرة محلية من بينها المكتبة المجانية لتعوّض جزءاً من التحصيل التعليمي.

ويختم إسحاق آدم حديثه "أوقد محسن شمعة في ظلام دامس، وينبغي مساندته حتى يستمر في مشروعه الرائد؛ وبالتالي توسعته ليشمل بقية المناطق، فهو وسيلة ناجعة لرفع وعي الناس وتحقيق السلام المجتمعي".