سياسة
.
وصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الحكم قبل أكثر من 20 عاماً متسلحاً بخطابات وأفعال تُحاكي الطبقة الفقيرة والمتوسطة الأوسع في تركيا والتي كانت متعطشة لزعيم قريب منهم، يفهم مطالبهم واحتياجاتهم، والأهم أن يكون متواضعاً ويعيش همومهم ويعمل على حل مشاكلهم، وذلك بعدما سئم الشعب التركي الطبقة الحاكمة في تلك الفترة والتي اتهمت بالطبقية والثراء والابتعاد عن هموم المواطنين.
بعد 20 عاماً في الحكم، انقلبت الآية رأساً على عقب، بات أردوغان وزوجته وأبناؤه والمتنفذون في الحكومة والحزب الحاكم متهمين بالثراء والحياة الفارهة والابتعاد عن هموم المواطنين الذي يعيشون أصعب ظروف اقتصادية منذ نحو عقدين وهو ما اعاد الكرة إلى ملعب المعارضة التي تتبنى اليوم نفس الخطاب السابق لأردوغان من حيث التواضع والاقتراب من هموم المواطنين وتعدهم بحكم متقشف بعيداً عن الثراء والطبقية.
فمن مطبخه المتواضع، اعتاد زعيم المعارضة ومرشحها للانتخابات الرئاسية كمال كليتشدار أغلو الظهور منذ أشهر في مقاطع فيديو وبث مباشر شبه يومي لتقديم خطابه السياسي بحيث يظهر في الخلفية مطبخه المتواضع جداً في شقة سكنية صغيرة لا تختلف عن تلك التي يقطنها أي مواطن من الدرجة المتوسطة قبل أن تبدأ زوجته أيضاً في بث رسائل سياسة من ذات المطبخ الذي بات محل مقارنة مع ذلك المطبخ الذي ظهرت منه أمينة أردوغان زوجة الرئيس التركي مؤخراً وأثار الكثير من الجدل بعدما قيل إنه في القصر الرئاسي الجديد وبه معدات ومقابض مياه بأسعار باهظة جداً.
منذ أكثر من عام، اختار زعيم المعارضة والمرشح الأقوى في وجه أردوغان بالانتخابات الرئاسية المقررة 14 مايو/أيار المقبل مطبخ منزله كمنصة لمخاطبة الشعب التركي، حيث بات يطل عليهم يومياً من هناك باستخدام حامل كاميرا صغير ضعه على طاولة الطعام ليظهر خلفه المطبخ بكافة تفاصيله من الفرن والثلاجة ذو العلامة التجارية الرخيصة والقديمة مروراً بالأواني المتهالكة وصولاً إلى مواد التنظيف والكثير من التفاصيل التي تُظهر تواضع منزل زعيم المعارضة وحياته اليومية.
واعتاد كليتشدار أوغلو كتابة عبارة "سألتقيكم اليوم من مطبخي"، ويبدأ مقاطع الفيديو بعبارة "أهلا بكم في منزلي"، حيث يتناول في هذه المقاطع الكثير من الملفات التي تتعلق بهموم المواطنين والتطورات السياسية والاقتصادية لكنه يركز بدرجة أساسية على الصعوبات الاقتصادية التي يمر بها الشعب التركي في الأشهر الأخيرة مع ارتفاع مستوى التضخم وارتفاع الأسعار مؤكداً أنه يشعر بمعاناة المواطنين "على عكس أردوغان" الذي يصفه بأنه "بات منعزلاً عن الواقع".
وفي خطوة جديدة، ظهرت لأول مرة قبل أيام "سيلفي" زوجة كليتشدار أوغلو في مقطع فيديو من المطبخ بملابس منزلية متواضعة ودون أي مساحيق تجميل لتقول "لست معتادة على الظهور أمام الكاميرا، ولن أكون ذلك في المستقبل، ولكن هناك موضوع مهم يجب أن نتحدث حوله، لذلك أخاطبكم اليوم أنا من المطبخ"، مثيرة إحصائيات "صادمة" تقول إن طفل من أصل كل 3 أطفال في تركيا لا يحصل على تغذية كافية بسبب الفقر، مشيرة إلى أنها كأم وجدة لأطفال ستعمل على إنهاء هذا الواقع. حيث شاهد الفيديو قرابة 4 مليون شخص.
الرمزية التي بات يحملها مطبخ كليتشدار أوغلو لم تقف عند هذا الحد، حيث باتت صورته وسيلة للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد، بحيث بات الكثير من الشبان يضعونها كصورة خلفية على حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وخلفية أيضاً لاجتماعات زوم، حيث يظهر مطبخ كليتشدار أوغلو كخلفية للكاميرا في اجتماعات "زوم".
يطلق زعيم المعارضة وقادة حزبه على النظام الرئاسي والحكومة التركية "نظام القصر" وذلك عقب انتقال أردوغان للقصر الرئاسي الذي بناه في العاصمة أنقرة، وهو القصر الذي أثير حوله الكثير من الجدل والنقاشات السياسية الحادة على مدى سنوات ولا زال محل انتقاد واسع من قبل المعارضة وشريحة واسعة من الشعب التركي الذي ترا فيه مظهراً من مظاهر الإسراف والبذخ والطبقية.
وبينما كانت تقول المعارضة إن القصر الرئاسي يضم 1000 غرفة للدلالة على ضخامته والبذخ في بنائه، خرج أردوغان للتأكيد على ان القصر يضم 1150 غرفة وليس 1000 فقط، معتبراً أن القصر "يعبر عن هيبة وقوة الدولة وانه ليس ملكاً له"، حيث كلف بناوه أكثر من 500 مليون دولار وبني على مساحة 200 ألف متر مربع ويضم مرافق وحدائق كبيرة، وهو ما اعتبرته المعارضة أبرز مظاهر "جنون العظمة التي يعيشها أردوغان".
وفي مناسبة يوم عاشوراء، حيث اعتاد الأتراك إعداد طبق حلوى عاشوراء، ظهرت أمينة أردوغان وهي تعد هذا النوع من الحلوى من مطبخ القصر الذي بدا فارهاً ومنظماً وضخماً حيث استخدم في بنائه أحدث وأغلى التقنيات والأدوات وهو ما ولد انتقادات لاذعة جداً للسيدة الأولى التي رأى فيها شريحة من الأتراك أنها لا تعبر عنهم وظهرت كأنها في مستوى آخر بعدما كانت رمزاً للتواضع وهي ابنة عائلة فقيرة متواضعة في السابق.
تقول الأسطورة إن الفلاحين في فرنسا وفي القرن السابع عشر بعدما ساء حالهم لدرجة انقطاع الخبز تظاهروا على نطاق واسع وعندما علمت الملكة "ماري أنطوانيت" التي كانت تعيش حياة البذخ والانعزال عن الرعية قالت لمستشاريها "دعهم يأكلون الكعك"، وبغض النظر عن دقة الرواية التاريخية غير الموثقة، إلا أنها باتت مثالاً دارجاً على السياسيين المنعزلين عن هموم شعبهم لدرجة عدم فهم احتياجاتهم.
قبل أيام، ومع زيادة الغضب الشعبي من ارتفاع الأسعار وخاصة أسعار اللحوم التي وصلت إلى متوسط 300 ليرة تركية بعدما كانت قبل عام قرابة 100 ليرة فقط، حاول وزير المالية التركي إيجاد حلاً مبتكراً للازمة حيث نصح المواطنين باستهلاك لحوم الخراف بدلاً من العجول التي قال إنها أرخص بكثير لكن المواطنين لا يفضلونها، في تصريح ولد غضباً عارماً وصدمة في صفوف المواطنين الذين أثبتوا أن أسعار لحوم الخراف والعجول واحدة، حيث كتب أحد المواطنين "إما الوزير لا يتسوق أو انه يسخر من المواطنين"، فيما كتب كثيرون "التاريخ يعيد نفسه، ماري أنطوانيت جديد".
في حملة مبتكرة، قام شبان أتراك طباعة أوراق لاصقة وإلصاقها على آلاف البضائع في فروع الماركت بعدد كبير من المحافظات التركية، حيث وضعت عليها صورة أردوغان وكتب بجانبها "هل سعر هذه السلعة مرتفع عليكم؟.. أردوغان السبب"، فيما سارعت السلطات التركية إلى اعتقال الشاب الذي بادر بهذه الحملة التي انتشرت على نطاق أوسع لاحقاً في محافظات أخرى وبطرق مختلفة.
ورغم التجاذبات السياسية الحادة، واهمية الملفات السياسية والعسكرية والسياسة الخارجية وغيرها من القضايا المصيرية، إلا أن الاستطلاعات تؤكد أن الاقتصاد بات يمثل الأولوية الأولى للمواطن التركي وأنه سوف يعلب دوراً حاسماً في التصويت بالانتخابات المقبلة التي تصنف على أنها أصعب انتخابات يخوضها أردوغان أمام كليتشدار أوغلو الذي يتسلح بورقة الانتخابات ومطبخه المتواضع، فهل ينتصر المطبخ على القصر؟.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة