سياسة

حب فلسطيني في الزنزانة

نشر

.

Muhammad Shehada

زيارة كل ٢٠ سنة، هي ملخص رحلة أم عبد الرحمن، سيدة فلسطينية تقطن في مخيم النصيرات في قطاع غزة، لكن الأزمة أن والدتها من القدس، بينما والدها من أريحا بالضفة الغربية، لتجد أم عبد الرحمن نفسها في زنزانة بحجم غزة.

تزوجت السيدة بشابٍ فلسطينيٍ من غزة التقته أثناء عمله بالقدس في تسعينات القرن الماضي، حتى غيرت الحكومة الإسرائيلية تصنيفها في سجل السكان واعتبرتها من أهل غزة. وبذلك يسري عليها وعلى أبنائها ما يسري على أهل القطاع المحاصر من منعٍ وتشديدٍ وعقابٍ جماعي.

أم عبد الرحمن واحدة من آلاف يرغبون في لم شملهم، لكنهم أمام أحد خيارين: إما الحبس معاً في غزة، أو عدم القدرة على رؤية بعضهم البعض مرةً أخرى.

زوجان في قفصين

ميسون المولودة بغزة، حاولت مراراً وتكراراً الالتحاق بزوجها إبراهيم في الضفة منذ العام 2010 دون نجاح، ما أجبرها على تربية أبنائهم الأربعة وحيدةً في غزة دون والدهم طيلة السنين الماضية.

الحالة الوحيدة التي سُمح للزوجين أن يلتقيا كانت عندما توفيت والدة إبراهيم في غزة عام 2013 وأعطته السلطات الإسرائيلية تصريحاً استثنائياً لزيارة غزة لمدة أسبوع.

"اختلطت علينا المشاعر. شعرنا بالحزن لأن والدته ماتت قبل أن تتاح له الفرصة لرؤيتها. ولكن كنا سعداء لأنه جاء لغزة. التقينا وعشنا معًا لمدة أسبوع. كان أطفالنا سعداء للغاية. جلسوا معه طوال الوقت وطلبوا أن يأكلوا ويشربوا يتنزهون معه"، تقول ميسون لمنظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية.

منذ ذلك الحين، يسألها أبناؤها دوماً عن والدهم ومتى سيرونه. لكن شمل الزوجين يمكن أن يلتئم في حالة واحدة: أن ينتقل إبراهيم لغزة بشكل دائم، ما يعني خسارته عمله وإقامته في الضفة وفقدانه القدرة على إعالة عائلته.

تستغل الحكومة الإسرائيلية العلاقات الأسرية والزوجية بين الفلسطينيين من الضفة الغربية مع فلسطينيي غزة لإجبارهم للتنازل عن حقهم في العيش في الضفة والانتقال مدى الحياة لغزة المحاصرة، بحسب تقرير لمركز غيشا الحقوقي الإسرائيلي.

تكلفة الشوق

عندما حاولت سمية، اسم مستعار، من طولكرم زيارة زوجها في غزة عام 2012، تقدمت بطلب تصريح للزيارة وافقت عليه السلطات الإسرائيلية. لكن عند وصولها معبر إيرز الحدودي مع غزة، اشترط الجيش الإسرائيلي التوقيع على مستند يقول بإنها ستقيم في غزة ولن تستطيع من العودة للضفة للعيش هناك كي يُسمح لها بالمرور.

في لحظة حماسٍ للقاء زوجها وبدء حياتهما معاً، وتحت الخوف الشديد من أن يرفض الجيش إدخالها لغزة، وقعت الاستمارة.

منذ ذلك الحين، لم تتمكن من العودة للضفة إلا مرةً واحدة لزيارة مؤقتة لبضعة أيام عام 2015 بعد أن قامت بطلب تصريح عبور العديد من المرات. بعبارة أخرى، أصبحت "غزاوية" وفقدت أي حق لها بالتواجد بين أهلها وفي مسقط رأسها.

لا تعرف العبرية؟ أنت في مشكلة

أما محمد حبش، 41 سنة، من بيت لحم، فأوردت صحيفة هآرتس العبرية قصته عندما حاول دخول غزة عام 2017 لزيارة والدته المريضة لمدة أسبوع، فأمرته السلطات الإسرائيلية بتوقيع ورقة عنوانها بالعربية "الاحتياجات الفورية- اجتماع العمل"، أما بالعبرية التي لم يستطع قراءتها فكتبوا "احتياجات خاصة– الانتقال لمنطقة غزة".

عند محاولته المغادرة، رفضت إسرائيل طلبه طوال عامين، حتى تمكن بصعوبة بالغة من السفر للأردن عبر مصر ومن ثم العبور للضفة. في عام 2020، حاول زيارة غزة لإقامة عزاء والدته، وسمحت له السلطات الإسرائيلية بالعبور، لكنها لم تسمح له بالعودة بحجة توقيعه ورقة عام 2017 للانتقال لغزة بشكل دائم دون علمه.

الفصل بـ"اعتراف حكومي"

الطريقة الوحيدة التي دخلت بها أم عبد الرحمن لزيارة عائلتها في القدس كانت مرافقة لابنتها المريضة بالسرطان آنذاك والتي احتاجت علاجاً طبياً في مستشفى المقاصد.

أهل غزة ممنوعٌ عليهم دخول الضفة في الغالبية العظمى من الحالات إلا في حالات إنسانية استثنائية جداً كالحاجة الماسة للعلاج أو لإجراء عملية جراحية غير متوفرةٍ في مستشفيات القطاع. وحتى حينها، يتوجب عليهم التقدم بطلب تصريح عبور معقد وصعب المنال من السلطات الإسرائيلية يسمح لهم بدخول الضفة أو القدس لمجرد أيام معدودة بعد تجاوز الفحص الأمني.

في عام 2010، أطلقت الحكومة الإسرائيلية اسماً رسمياً صريحاً على هذه الممارسات وهو "سياسة الفصل" بين غزة والضفة، جغرافياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياساً، ما يعني منع لم شمل الأزواج من غزة مع أقرانهم في الضفة منعاً باتاً.

اعرف أكثر

تفاخر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عام 2019 بنجاح هذه السياسة في أنها "قطعت الصلة بين غزة ويهودا والسامرة "الضفة". إنهما كيانان منفصلان، وأعتقد أنه على المدى الطويل، ليس بالأمر السيئ لإسرائيل"، بحسب تفسير نتنياهو فإن فلسفة الفصل بين شطري الأراضي المحتلة يمنع إقامة الدولة الفلسطينية أو حتى المطالبة بذلك، خاصة في ظل عدم تحكم السلطة الفلسطينية بقطاع غزة.

إذا حاولت أم عبد الرحمن البقاء ليومٍ واحدٍ بعد انتهاء مدة التصريح الإسرائيلي، فإن ذلك تعتبره السلطات الإسرائيلية جريمة تعرضها لعقوبات مشددة. فالأمر العسكري 1650 "لمنع التسلسل" يعتبر أي فلسطيني غزاوي متواجد في الضفة "أجنبي غير شرعي" إذا تجاوز مدة تصريحه الأمني أو دخل دون تصريح. هذا الأمر يجعله عرضةً للحبس لمدة 3-7 سنوات أو الطرد والترحيل دون العرض على محكمة، بغض النظر إذا كان "ضفّاوي" الأصل أو مرتبط وله عائلة من مواطنة من الضفة. حتى الأبناء المولودين في الضفة، فقد لا يسمح لهم بالبقاء وقد يطردون لغزة مع الأب أو الأم المصنفين "غزاويين" في سجل السكان الإسرائيلي.

عبور مستحيل

في إطار سياسة الفصل، قامت الحكومة الإسرائيلية بتفصيل بضع حالات استثنائية يسمح فيها لشخص من غزة التقدم بطلب للانتقال للضفة. لكن قانون الاستثناء هذا "خاص جداً بحيث لا ينطبق على أحد، ومصمم من أجل رفض الطلبات بدلاً من قبولها" بحسب مؤسسة غيشا الحقوقية الإسرائيلية التي تراقب حرية الحركة في الأراضي المحتلة.

المعايير شديدة التعقيد، إذ يُشترط الحصول على الموافقة الأمنية المسبقة ويُسمح لثلاثة فئات فقط التقدم بطلب: القاصرون تحت عمر 16 عاماً ولديهم أحد الأبوين في الضفة وتوفي عنهم الوالد الآخر في غزة. والأشخاص الذين يعانون من أمراض طبية مزمنة ويحتاجون رعاية من قريب درجة أولى في الضفة. وكبار السن فوق 65 عاماً الذين يحتاجون لرعاية تمريضية من قبل قريب درجة أولى.

كل ذلك مشروط بألا يكون لديهم أي صلة قرابة بأي أحد في غزة، ما يجعل الأمر مهمة شبه مستحيلة. فمنذ إقرار هذا الإجراء عام 2009 وحتى عام 2017، لم يتمكن سوى خمس أفراد من التقدم بمثل هذا الطلب. حتى إذا تمت الموافقة، فسيحصل الشخص المعني على إقامة مؤقتة في الضفة لمدة 6 شهور فقط قابلة للتجديد مرةً سنوياً بعد إعادة دراسة الطلب. وبعد سبع سنوات يمكن التقدم للحصول على إقامة دائمة وإن كان ذلك الأمل ضئيلاً.

ما قانونية هذه الإجراءات؟

تقول منظمة غيشا الإسرائيلية إن طرد الفلسطينيين من الضفة أو منعهم من العودة إليها يعتبر جريمة حرب وفق القانون الدولي. المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص على أنه "يُحظر النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، بغض النظر عن دوافعهم". ويعد منع تواجد فلسطيني غزة في الضفة ومنع تنقل الفلسطينيين بين شطري الأراضي المحتلة مخالفة صريحة لاتفاقية أوسلو للسلام التي وقعتها إسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية. حيث تنص الاتفاقية على أن الضفة الغربية وقطاع غزة هما "وحدة جغرافية واحدة سيتم الحفاظ على سلامتها ووضعها خلال الفترة الانتقالية".

حمل التطبيق

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة