سياسة
.
في سبت النور من عام 2002، نشب شجار حاد بين البطريرك اليوناني والأسقف الأرمني حول أحقية الخروج أولاً بالنار المقدسة من ضريح السيد المسيح في كنيسة القيامة.
أطفأ البطريرك اليوناني شمعة الأسقف مرتين، بينما خرج البطريرك حافياً، واستمر الإثنان في التدافع إلى أن تدخلت الشرطة لاستعادة النظام.
في العام نفسه، شمّر رهبان الكنيستان القبطية المصرية والإثيوبية عن أكمامهما وانهالوا على بعضهم بالضرب والشتائم في أزقة القدس، بعد أن وضع راهبٌ قبطيٌ كرسيه تحت ظل شجرة على سطح الكنيسة الذي يستعمله الإثيوبيون، ما اعتبرته الكنيسة الإثيوبية "إعلان حرب"، أدت الاشتباكات وقتها لإصابة أحد عشر راهباً.
فما سبب انتقال الخلافات المصرية الإثيوبية إلى القدس؟ وكيف تؤثر التوازنات السياسية على الأمر؟
عند دخولك كنيسة القيامة، ستلاحظ سلماً خشبياً رثاً تحت أحد نوافذ الواجهة. هذا السلم ممنوعٌ تحريكه ولو قيد أنملة منذ العام 1757 وحتى يومنا هذا.
السلم المصنوع من شجر الأرز اللبناني وضعته الطائفة الأرمنية للوصول إلى شرفة الكنيسة ما أغضب الرهبان اليونان، والطريق الوحيد قانونياً لإزالته من مكانه هو أن تتفق جميع الطوائف المسيحية في الكنيسة على ذلك.
هذه القصة رمز لصراع نفوذ وسلطة ٦ كنائس لمئات السنين على كنيسة القيامة، أحد أقدس كنائس العالم وأقدمها. الطوائف الستة هي:
لاحتواء هذا الصراع ، أصدر السلطان العثماني ثمان الثالث فرمان "إعلان الوضع الراهن في الأماكن المقدسة" عام 1757، والذي قسّم القدس لقطاعات مختلفة تعطي الحق لمن كان مسيطراً على موقعٍ ما، في ذلك الوقت، بالسيطرة عليه لأجلٍ غير مسمى.
أعطى الفرمان الطوائف الرئيسية كالكنائس الأرثوذكسية اليونانية والكاثوليكية والأرمنية حقوق امتلاك واستخدام جميع الأماكن المقدسة. بينما الكنائس المصرية القبطية والسريانية الأرثوذكسية الأصغر حجماً حصلوا على حقوق محدودة باستخدام الأماكن المقدسة لكن دون حقوق ملكية عليها، تقريبا.
عوضاً عن ذلك، ترأس الطائفتان المصليات والممرات والأديرة الأخرى التي تقع بالقرب من ضريح المسيح. لكن الإثيوبيين ليس لديهم أي حقوق في الكنيسة على الإطلاق، ويمكنهم فقط استخدام السطح.
اشتهرت "حروب الأعلام" بين الكنيستين القبطية والإثيوبية في القدس حين رفع الإثيوبيون علمهم على سطح صومعة دير السلطان عام 2018 إلى جوار خيمة نصبوها ووضعوا علامة على الدير لإعلان ملكيتهم له.
رد المصريون برفع علمهم بجانب العلم الإثيوبي ورسم شعارات مصرية على أحد أبواب الإثيوبيين.
تجددت المناكفات عام 2021 ما دفع عضو مجلس النواب المصري طارق خولي لإدانة أعمال الرهبان الإثيوبيين "بالبلطجة". وتجددت المواجهات عام 2022 والتي دفعت الطائفة المصرية لرسم ألوان العلم على حائط الدير.
صراع الطائفتين ممتد منذ حوالي 400 سنة، إذ يدّعي كلٌ من الطرفين ملكيته لدير السلطان الواقع فوق سطح كنيسة القديسة هيلانة.
الوصول للفناء الذي يوجد به الدير يتم عبر كنيستين متجاورتين، لذلك جميع الملكيات الثلاث محل نزاع حاد بين الطائفتين حتى وصل الأمر للصراع حول الحق في كنس الأرضية أو إصلاح بلاطة مكسورة باعتبارها ادعاءات ملكية.
الفرمان العثماني قضى بأن يكون الدير مساحة مشتركة بين الكنيستين المصرية والإثيوبية وأن تكون السيطرة للطائفة القبطية على كنيستي القديس ميخائيل والكائنات الحية الأربعة المتجاورتين.
حجة الإثيوبيون للمطالبة بالأماكن المقدسة المسيحية في القدس هي أنهم كانوا من أوائل معتنقي الديانة المسيحية، وأن وجودهم في القدس يمكن تتبعه لقصة لقاء ملكة سبأ مع الملك سليمان قبل ميلاد المسيح بألف عام، ويشيرون لروايات كتبها رحالة أوروبيون عن شعب حبشي في المدينة المقدسة جيرونيمو لوبو في القرن السابع عشر.
المصريون يرون الكنيسة الإثيوبية منشقةً عنهم بعد أن كانت جزءاً من الكنيسة القبطية لقرون عديدة.
فالأسقفية الإثيوبية التي تبنت المسيحية في القرن الرابع كانت تابعةً لكنيسة الإسكندرية ومعتمدةً عليها، وكان جميع أساقفة إثيوبية حينها من المصريين. لذلك يرى المصريون أنهم أصحاب الفضل في كل ما تملكه الكنيسة الإثيوبية التي لم تستقل عن قرينتها المصرية إلا في العام 1951 حينما وضعوا أول بطريرك إثيوبي خاص بهم، كاسرين الرابطة القديمة بين الطائفتين، بحسب الباحثة هانا بندكوسكي.
علاوة على ذلك، يرى المصريون أن السبب الرئيسي لاستمرار وجود الإثيوبيين في كنيسة القيامة هو كرم الكنيسة القبطية المصرية ومساعدتها لهم. الإثيوبيون الذين امتلكوا مصلياتهم الخاصة داخل الكنيسة الرئيسية أصابهم الفقر المدقع خلال الحكم العثماني وانقطعت عنهم خزائن امبراطورهم وأصبحوا غير قادرين على دفع الضرائب الباهظة للأتراك في القرن السادس عشر.
يدّعي الإثيوبيون، أنه عندما قتل وباء الكوليرا عام 1838 جميع كهنتهم في دير السلطان، انتهز الأقباط الفرصة للاستيلاء على ممتلكاتهم المتبقية بمباركة إبراهيم باشا، الحاكم المصري الذي احتل القدس ما بين 1831-1840.
تذهب الرواية الإثيوبية أن المصريين الأقباط أحرقوا جميع الوثائق في مكتبة الإثيوبيين، بما في ذلك سندات الملكية الخاصة بهم، بحجة أنها ملوثة بالوباء، وتمكنوا من الحصول على مفاتيح المصليات والدير.
هذا الأمر جعل الوافدين الإثيوبيين مجرد ضيوف تم إسكانهم في السطح الذي بنوا فيه أكواخاً طينية وأجبروا على الاحتفال بعيد الفصح بخيمة في الفناء.
في المقابل، تدّعي الكنيسة المصرية أن الإثيوبيون خسروا حقوق الملكية لصالح الأرمن واليونانيين، لكنهم تمكنوا من البقاء في دير السلطان بفضل مساعدة الأقباط المصريين.
مستترين بغطاء الليل، سارع الإثيوبيون عام 1970 لتغيير أقفال أبواب الممر المؤدي للكنيستين الخاضعتين لسلطة الأقباط، كنيستي القديس ميخائيل والمخلوقات الأربعة، بينما كان الأنبا باسيليوس رئيس أساقفة القدس القبطي يقود الصلاة مع رهبانه ليلة أحد الفصح.
عندما حاول أحد الرهبان الأقباط تفقد الأبواب، أوقفه ضابط شرطة إسرائيلي، وعندما توجه عدد أكبر من الرهبان الأقباط للطابق العلوي وجدوا المزيد من ضباط الشرطة الإسرائيليين، بحسب رواية الباحث ريموند كوهين.
ذهب الأقباط المصريون بعدها للمحاكم الإسرائيلية لإزالة الأقفال، لكن المحكمة لم تستطع الفصل في هذا النزاع، وقالت بأن الحكومة هي الجهة المخولة بفض نزاعات الملكية الدينية منذ عام 1924.
كل ما كان بإمكان المحكمة العليا الإسرائيلية فعله عام 1971 هو إصدار رأي انتقدت فيه تصرفات الشرطة الإسرائيلية وأمرت الإثيوبيين بتسليم مفاتيح الأقفال. لكن الحكومة الإسرائيلية المخولة باتخاذ أي إجراءات تنفيذية حيال الأمر لم تشكّل لجنة لحل النزاع خلال العقود الخمسة التالية، ما أبقى الأمر على ما هو عليه من ذاك الحين.
إذا قمت بزيارة هذه المنطقة اليوم ستجد حراساً إثيوبيين على باب كنيستي القديس ميخائيل والمخلوقات الأربعة. وإذا دققت النظر فستلاحظ أن الأيقونات في هذه الأماكن مرسومة على الطراز القبطي المصري. فمع احتلال إسرائيل للقدس الشرقية والمدينة القديمة، انتهز الإثيوبيون الفرصة لقلب الوضع وكلفوا الحراس بالوقوف على أبواب المصليين لبسط سيطرتهم على المكان، بحسب الادعاءات المصرية.
يرى محللون بأن الرهبان الإثيوبيون في القدس يستفيدون من المعادلات السياسية العامة في المنطقة، فطالما أبقت الحكومة الإثيوبية على علاقاتها الوطيدة مع إسرائيل، فإن الرهبان يحصلون على معاملة تفضيلية وستغض الحكومة الإسرائيلية النظر عن أفعالهم وإن انتهكت قانون الوضع الراهن.
ازدادت أعداد الإثيوبيين المسيحيين في السنين الماضية، حيث شكل الإثيوبيون حوالي 71% من طالبي اللجوء في إسرائيل، 30 ألف شخص، بحسب آخر إحصاء صادر في العام 2020.
منذ خمسينات القرن الماضي، رأت الحكومة الإسرائيلية في إثيوبيا أهمية استراتيجية بسبب وقوعها بالقرب من مضيق باب المندب الذي يمنح إسرائيل طريقاً بحرياً للوصول لآسيا وأفريقيا.
في مقابل مساعدات اقتصادية وعسكرية محدودة، تمكنت إسرائيل من الوصول لموانئ الدولة الحيوية. لذلك أمدت إسرائيل إثيوبيا بالصواريخ والقنابل العنقودية وقطع غيار الدبابات والطائرات أثناء قتالها ضد الصومال وفي إريتريا عامي 1977-1978. تواجه إسرائيل ادعاءات بتقديم المساعدات التقنية والعسكرية لإثيوبيا في عملية بناء سد النهضة الذي يهدد أمن مصر المائي.
يضاف إلى ذلك الرابط الديني، حيث ينظر اليهود لإثيوبيا على أنها مكان ينحدر منه إخوانهم المفقودين منذ زمن طويل. كما عملت إسرائيل على نقل يهود الفلاشا الإثيوبيين في عدة مهام إنقاذ منذ عام 1984.
يُنظر للكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية تاريخياً على أنها "يهودية لحد كبير"، حيث عمل الكاهن إيوستاتيوس في العصور الوسطى على إقرار قدسية يوم السبت كيوم راحة، ما أدى لاستدعائه لمحكمة قبطية في القاهرة بتهمة نشر الأفكار التهويدية، وانتهى الأمر بنفيه، لكن الكنيسة الإثيوبية استمرت على تقاليده بقدسية يوم السبت حتى الآن.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة