سياسة
.
"أخبرتني أن آخاك قد قتل، لذا قلت: حسناً اجلسوه جانباً" هذه الكلمات البسيطة لامست قلب البريطاني مايك ثيكستون حينما اتصل بخاطفه الأردني زيد حسن الصفاريني ليسأله لماذا حماه من الموت قبل ستة وثلاثين عاماً في حادثة اختطاف الطائرة الأميركية بام أم 73، والتي قتل الخاطفون نحو عشرين من ركابها بينما أصيب 120 أخرون.
الصفاريني القابع اليوم في أحد السجون الأميركية والمحكوم عليه بالحبس لمئة وستين سنة كان عضواً في أحد أعتى التنظيمات المسلحة وأكثرها دموية، "تنظيم أبو نضال البنا" الذي عرف عن نفسه ذات مرة قائلاً "أنا روح الشر التي تتحرك في ظلمات الليل مسببة.. للكوابيس".
5 ملايين دولار هي مكافأة أعلنت عنها الحكومة الأميركية عام 2009 لمن يدلي بأي معلومات تؤدي للقبض على أي من الخاطفين الأربعة الآخرين الذين حوكموا في باكستان بالحبس وقتها، ولكن تم ترحيلهم لفلسطين عام 2008. وفي عام 2018 جدد جهاز المباحث الفدرالية الأميركي الإعلان عن المكافأة المنشودة مع إصدار صور معدلة رقمياً لتظهر ما قد يبدو عليه الخاطفون اليوم.
حاولت القوات الأميركية اغتيال أحد الأربعة المطلوبين، جمال سعيد عبد الرحيم، عام 2010 في هجوم من قبل طائرة مسيرة في باكستان لكن لم يتم تأكيد موته.
قضية الطائرة المخطوفة تسببت أيضاً باتهام حكومة معمر القذافي الليبية برعاية وتمويل عملية الاختطاف ومطالبة ليبيا بدفع 10 مليارات دولار عام 2006 كتعويض للضحايا.
وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، شغلت حادثة الاختطاف تلك هاجساً كبيراً في الإعلام الغربي، حيث كتبت عنها العشرات من المؤلفات والكتب وتم انتاج العديد من الأفلام الوثائقية لرواية الأحداث.
فجر يوم الخامس من سبتمبر، اقتربت مركبة مسرعة بداخلها رجلي أمن من الطائرة بان آم 73 الأميركية والتي كانت قد هبطت لتوها في مطار كراتشي الدولي قادمةً من مومباي. أحد الرجلين كان الشاب زيد الصفاريني الذي لم يتجاوز عمره حينها الرابعة والعشرين.
بعد اعتلائهم الطائرة، كشفا عن هويتهما الحقيقية كمسلحين من تنظيم أبو نضال وانضم إليهما رجلان آخران تنكرا بسراويل وأقمصة باكستانية تقليدية أحدهما حمل حقيبة مليئة بالقنابل اليدوية، ذكرت محكمة أميركية لاحقاً بأن نية الخاطفين كانت استخدام الطائرة المخطوفة لتحرير أسرى فلسطينيين في إسرائيل وقبرص.
زيد (قائد المجموعة) تنبه أن الطيارين هربا من قمرة القيادة سراً عبر فتحة خروج طوارئ، فأجبر أحد الركاب الهنود الحاملين لجواز سفر أميركي، راجيش كومار، على الحضور لمقدمة الطائرة والركوع أمام باب الطائرة التابعة لخطوط بان أميركان العالمية وهدد بقتله إذا لم يرجع الطياران خلال 30 دقيقة. لما نفذ صبر زيد، أطلق النار على رأس كومار وألقى به من باب الطائرة مثيراً الرعب بين الركاب.
أمر زيد مضيفات الطائرة أن يجمعوا جوازات سفر ركاب الطائرة البالغ عددهم 360 راكباً، لكن المضيفات تعمدن إخفاء جوازات سفر الركاب الأميركيين لتيقنهم بأنهم سيكونون أكثر أهمية للخاطفين. دقائق وسمع الركاب البريطاني مايك اسمه ينادى عليه في سماعات الطائرة ليصبح رهينة التفاوض التالية ويجبر على الجثو على ركبتيه عند الباب، بينما حذر الصفاريني السلطات من أنه سيقتل شخصا آخر إذا اقترب أي أحد من الطائرة. لكن بعد ساعات تفاجئ مايك بأن زيداً أعاده لمقعده وجنبه الموت.
في لحظات الاختطاف المحتدمة ووسط القلق والخوف ودفعات الأدرينالين العالية، تفاجئ زيد بأن الرهينة البريطانية يتوسل ألا يقتله قائلاً "أرجوك لا تؤذني، أخي مات مؤخراً في الجبال ووالدي ليس لديهما أي ابن آخر". حرك الصفاريني يده كما لو أراد القول إنه ليس لديه وقت لهذا.
لكن بعد أن ذهب زيد لقمرة القيادة للتفاوض مع السلطات، عاد لمايك ليسأله إن كان يريد الماء فأجابه بالإيجاب، ثم سأله بعدها إن كان جندياً أو حاملاً للسلاح أو متزوج. بعدها أخبر زيد مايك بأنه لا يحب كل ذلك القتل والعنف وأن الأميركيين والإسرائيليين استولوا على بلده وتركوه غير قادر على أن يحظى بحياة ملائمة، بحسب ما روى الراكب البريطاني.
أيقن مايك أنه موته حتمي، فحاول كسب ود المهاجمين بطريقة أخرى من خلال التظاهر بأنه مسلم وقيامه بالصلاة أمامهم، ثم أغشي عليه نائماً لعدة ساعات. أيقظه أحد الخاطفين وأمره بالعودة لمقعده بعد اثني عشرة ساعة من الانتظار والتفاوض وهو ما أنقذ حياته حينما اندلعت الاشتباكات بعدها مساءً.
الساعة التاسعة مساءً، انقطع التيار الكهربائي عن الطائرة بعد نفاذ بطارية وحدة الطاقة المساعدة. زيد ورفاقه انتابهم الذعر وألقى أحدهم قنبلة يدوية في ممر الطائرة خوفاً من أنه قد تم اقتحامها. ثم أطلق الخاطفون الرصاص بشكل عشوائي في العتمة، ما أدى لقتل عشرين راكباً وإصابة العشرات. وضاعف الإصابات تناثر الرصاص بعد اصطدامه بجسم الطائرة.
وميض إطلاق النار اللحظي أنار الطائرة المزدحمة بالركاب لثوانٍ معدودة سمحت لأحد الركاب أن يفتح الباب الخلفي للهرب ومن ثم تدافع المسافرون فوراً نحو الباب وقفزوا إما لجناح الطائرة أو نحو الأرض من ارتفاع نحو ستة أمتار، وكان مايك أحدهم.
من زنانة السجن الأميركي، شرح زيد لمايك في اتصال هاتفي الصيف الماضي أنه تأثر عندما سمع عن موت أخيه الأكبر وأنه الابن الوحيد المتبقي للعائلة فتعاطف معه ورفض قتله.
مايك لم يخطر بباله ولو للحظة طيلة السنوات الماضية أن يكون هذا هو السبب الرئيسي لمنحه فرصةً للنجاة، مضيفاً "عندما قلت له ذلك قبل ارجاعي لمقعدي باثنتي عشرة ساعة، لم أكن أنه حتى سمعني... كانت إجاباته مهمة لي".
زيد شرح أيضاً لمايك أن السبب الذي دفعه لإطلاق النار كان أنه أصيب بالخوف والذعر بعد انقطاع التيار الكهربائي عن الطائرة والعتمة التي غطت المكان.
ألقت السلطات الباكستانية القبض على جميع الخاطفين الأربعة أحياء، بالإضافة لخامس اتهم بالتواطؤ معهم في تدبير العملية.
حوكم الخمسة بالإعدام لكن تم تخفيف أحكامهم للسجن المؤبد.
بعد أحداث سبتمبر بأسبوعين واجتياح الجيش الأميركي لأفغانستان، سلمت الحكومة الباكستانية الصفاريني للمباحث الفدرالية كبادرة حسن نية.
زيد البالغ حينها 39 عاماً أقر بالذنب في جميع التهم المنسوبة له ليتجنب حكم الإعدام وحوكم بالسجن 160 عاماً.
الحكومة الليبية قبلت تحمل المسؤولية عام 2003 عن تفجير طائرة لوكربي وفي العام التالي عرضت 170 مليون دولار كتعويض لعائلات ضحايا طائرة يو تي إيه الرحلة 772 لكنها التزمت الصمت تجاه الطائرة بان آم 73.
وقدمت ليبيا مبلغ 2.7 مليار دولار لأميركا لتعويض ضحايا أعمال العنف التي اتهمت بها. في المقابل، أزالت حكومتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ليبيا عن قوائم الدول الداعمة للإرهاب ورفعت العقوبات عنها وطبعت العلاقات معها.
منظمة أبو نضال – والتي حكمت منظمة التحرير الفلسطينية على رئيسها صبري البنا بالإعدام غيابياً – اشتهرت بأعمال الاغتيالات واختطاف الطائرات والتفجيرات في أكثر من عشرين بلد، راح ضحيتها أكثر من 900 شخص.
واتهمت منظمة أبو نضال بالعمل كمجموعة مرتزقة وعرفت بعلاقاتها مع بعض الأنظمة العربية في ليبيا والعراق وسوريا.
وأقدمت منظمة أبو نضال على اغتيال العديد من القيادات الفلسطينية كصلاح خلف أبو إياد، وحاولت اغتيال الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس.
في عام 2002 أعلنت السلطات العراقية مقتل أبو نضال بعد أن أطلق رصاصة في فمه عند وصول قوات الأمن لاعتقاله اشتباهاً بتآمره على اسقاط صدام حسين، وانتهى بذلك تنظيمه سيئ السمعة.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة