سياسة
.
انفجر كيل من التصريحات الإسرائيلية الإعلامية بالشجب والاستنكار وإدانة العنصرية قبيل يوم استقلال إسرائيل السابع والخمسين بأيام. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ورئيس المعارضة يائير لابيد، وقنوات التلفاز، والمفكرين وحتى وزير الأمن القومي المدان بجريمة التحريض العنصري كلهم تسابقوا للقول بأعلى صوت "لا مكان للعنصرية هنا".
السبب كان مقطع فيديو لسبع مراهقات من اليهود الغربيين "أشكينازيم" من مدرسة حوريف المتدينة في القدس طلين وجوههن باللون البني للسخرية من اليهود الشرقيين "مزراحيم"، وتظاهرن بالهمجية والفوضى وعدم احترام التقاليد وآداب المكان. "كانت هذه أقبح حادثة عنصرية رأتها إسرائيل مؤخراً"، هكذا وصفت مذيعة القناة 12 العبرية الأمر.
المقطع الذي لا تتجاوز مدته الدقيقتين ونصف اعتبره بعض الإسرائيليين دليلاً على العنصرية التي تقسم المجتمع ليهود من ذوي البشرة البيضاء ويهود من أصحاب البشرة البنية أو السمراء. بينما اعتبره البعض الآخر دليلاً على العنصرية والكراهية المنتشرة في أوساط اليهود المتدينين في المجتمع الإسرائيلي.
قد تبدو ردة فعل القيادات السياسية تلك مبالغاً فيها على مقطع هزلي لأطفال لم يحظ في بادئ الأمر سوى ببضع مشاهدات معدودة. لكن هذا الذعر كان معبراً عن مشكلة أعمق تسيطر على هاجس الإسرائيليين منذ مدة، وهو الخوف من انهيار الدولة اليهودية داخلياً بسبب الانقسامات والاضطرابات السياسية. فما القصة؟
"أسلافنا خربوها بأيديهم. لم يتمكنوا من الاحتفاظ بدولتهم لأكثر من 80 سنة. قد تشير مراجعة تاريخنا إلى أننا كيهود لم نتمكن من الإبقاء على بلدنا لأكثر من 80 عام" هذه كلمات رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت. شاركه نفس الرأي رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك عام 2022 عندما قال إن الخطر الحقيقي الوحيد لوجود إسرائيل هو "الخلاف الداخلي، وتنامي الكراهية بين اليهود وبعضهم البعض" وأن الدولة اليهودية قد لا تتجاوز عقدها الثامن كما كان الحال لسابقاتها من محاولات إقامة دولة يهودية في عهد الملك ديفيد وعهد المكابيين حيث انتهت المحاولتان بالانهيار قبل تجاوز الثمانين عام.
لطالما كانت إمكانية انهيار إسرائيل نقطةً تشغل تفكير الشارع العربي بين من يؤمنون بأن إسرائيل زائلة لا محالة وأنها مجرد مسألة وقت، وبين من يعتقدون بأن القوة الإسرائيلية العسكرية وترسانتها النووية والدعم الغربي الصلب وغير المشروط لها ينفيان احتمالية زوالها في المدى المنظور.
لكن الخوف من انهيار الدولة وزوالها هو أمر مسيطر على هاجس الجمهور الإسرائيل بشكل متنامي في الأعوام الخمس الماضية، ما دفع نتنياهو للتحذير عام 2017 من أن الأخطار المحيطة بإسرائيل قد تعني أنها لن تعمر لمئة عام، وقد تجدد دق ناقوس الخطر حول بقاء الدولة اليهودية على نحو غير مسبوق في شهر أبريل الماضي.
“
الآن بالضبط، بعد 75 عامًا من وجود إسرائيل، الهاوية في متناول أيدينا
“
75 عاماً من وجود الدولة هو رقم يدعو عادةً للاحتفال والتفاؤل والتفاخر، لكن الأمر لم يكن كذلك عند الإسرائيليين.
سيطرت مشاعر الخوف من الانهيار الذاتي على محاولات الألعاب النارية واستعراضات الطيران الحربي وخطابات التهنئة، وسط تنامي الاضطرابات السياسية المحلية.
كبرى الصحف العالمية كالتايمز والإيكونوميست وسي إن إن ولوس أنجلوس تايمز وغيرها تساءلت بشكل علني في ذكرى الاستقلال الإسرائيلية إذا كانت الدولة اليهودية ستنجو وتبقى، خاصة في ظل وجود حربها مع نفسها داخلياً.
"أولئك الذين يعتقدون أن الحرب الأهلية تفقد فيها الأرواح هو خط لن نتجاوزه، ليس لديهم أدنى فكرة. الآن بالضبط، بعد 75 عامًا من وجود إسرائيل، الهاوية في متناول أيدينا" هكذا حذر الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتزوغ قبل يوم الاستقلال.
بينما تساءل رجل الأعمال الإسرائيلي الأميركي موتي كاهانا "ربما قدرنا هو التجول حول العالم وتعزيز الإيجابية والقيم ونقاط القوة اليهودية".
أربعة أسباب رئيسية تكررت في خطابات التحذير من الانهيار الداخلي وهي الانقسامات السياسية الداخلية وتنامي الكراهية والفرقة بين المواطنين، وصعود اليمين الإسرائيلي المتطرف والتيار الديني المتشدد، والعزوف عن الخدمة العسكرية وفقدان روح التضحية، والتفوق الديمغرافي الفلسطيني.
5 انتخابات متتالية خلال أربعة أعوام لم تنجح الأحزاب السياسية الإسرائيلية فيها للوصول لأرضية مشتركة تمكن تشكيل حكومة ثابتة، ولم يفز أي تحالف سوى بنسبة أعلى من النصف بقليل.
في كل مرة، يكون مصير التحالف الحاكم معتمداً على أغلبية ضئيلة جداً بنسبة مقعد لخمسة مقاعد، وسرعان ما تطفوا الاختلافات بين الأحزاب المتحالفة على السطح وتنهار الحكومة بانسحاب أي عضو أو حزب صغير من التحالف. هكذا أصبح حال إسرائيل منذ عام 2019، وسط خطاب كراهية وتحريض متصاعد بين الطرفين وصل حد التهديد بقتل قيادات الأحزاب السياسية المختلفة.
وما فاقم هذه الأزمة هو افتقار إسرائيل لقيادة كفؤ ذات كاريزما وشعبية عالية، فلا يوجد أي اسم قوي بما فيه الكفاية للإطاحة بنتنياهو من رئاسة الوزراء أو من رئاسة حزب الليكود على الرغم من تهم الفساد والرشوة التي تلاحقه.
التعديلات القضائية المرتقبة للتحالف اليميني الحاكم قسمت الشارع الإسرائيلي وأدت لموجة من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وسلسلة مظاهرات مستمرة منذ أكثر من 17 أسبوعاً، ما دفع شركة موديز الائتمانية العالمية لتخفيض تقييم إسرائيل بسبب "تدهور الحكومة".
يضاف إلى ذلك انسحاب العديد من الشركات الناشئة ورؤوس الأموال من إسرائيل وتهديد مئات رجال الأعمال الأميركيين بسحب استثماراتهم من إسرائيل على وقع الأحداث الجارية.
وعلى الرغم من تأجيل نتنياهو قوانين التغيير القضائي لتهدئة الشارع، إلا أن المظاهرات مستمرة أسبوعياً من قبل الطرفين. متظاهرو المعارضة يحتجون أمام منازل قيادات الحكومة السياسية ويقاطعون أي فعاليات لهم ويواجهونهم في المطاعم والشوارع بعبارة "عار عليكم".
مصير الحكومة الحالية مرهون بالتعديلات القضائية، فتحالف اليمين سينهار إذا لم يقم نتنياهو بتمرير تلك التعديلات. وإذا قام بتمريرها فإن ذلك سيؤجج موجة الاحتجاجات والاضطرابات التي تشهدها إسرائيل، ما يجعل سيناريو الحرب الأهلية أقرب من أي وقت مضى.
"عليكم أن تخافوا" هكذا خاطب وزير الدولة الإسرائيلي للشؤون التعليمية حايم بيتون الجمهور الإسرائيلي.
الوزير وعضو الكنيست المتطرف كان يشير لتنامي أعداد يهود الحريديم شديدي التدين وأن نسبة مواليدهم فاقت المعدل القومي للمواليد، ما يعني أنهم سيشكلون مستقبل إسرائيل.
بيتون أشار إلى أن نحو 40% من طلاب الصف الأول ابتدائي في إسرائيل هم من يهود الحريديم على الرغم من أن نسبة هذه الطائفة لا تتجاوز 13.5% من مجموع السكان.
تنامي أعداد وقوة الحريديم في إسرائيل تبعث على الخوف حول إمكانية بقائها.
فهم يكرهون دولة إسرائيل ويمتنعون عن الخدمة في جيشها ويبغضون الأكثرية العلمانية ويريدون تبديل المبادئ الليبرالية للدولة بمبادئ التوراة والعهد القديم وتقويض السلطات القضائية والرجوع لمرجعيات دينية عليا للبت في المسائل الحياتية.
أغلبية الحريديم – وهم الطائفة الأسرع نمواً في إسرائيل – عازفون عن المشاركة في سوق العمل ويتفرغون لدراسة التوراة ويعيشون على مساعدات الدولة ومواردها. كما أن تحصيلهم ضعيف في العلوم الطبيعية كالرياضيات والفيزياء بالمقارنة بمجمل السكان.
هذه العوامل وأكثر تجعل قوة طائفة الحريديم السياسية خطراً من وجهة نظر التيار العلماني والليبرالي يخشى أن يصبح أقلية خلال العقود القادمة، خاصة وأن الأحزاب الدينية الإسرائيلية تشكل الأغلبية في التحالف الحاكم بواقع 33 مقعد من أصل 65 مقعد يملكها التحالف في الكنيست.
العشرات من ضباط سلاح الجو والمشاة ونخبة المخابرات السيبرانية 8200 ووحدات العمليات الخاصة وجهاز المخابرات وغيرهم أعلنوا رفض الخدمة العسكرية مؤخراً احتجاجاً على سياسات حكومة نتنياهو وتعديلاته القضائية. هذا الأمر عزز تحذيرات الأجهزة الأمنية بتآكل قدرة إسرائيل على الردع وهيبتها أمام أعدائها وسط مخاوف انقسام الجيش في حال تقويض سلطة القضاء ودخول البلاد في أزمة دستورية.
“
يوجد اليوم بالفعل عرب أكثر من اليهود بين البحر ونهر الأردن
“
الجيش الإسرائيلي الذي حرص مؤسسوه أن يحظى بمكانة مقدسة بين المواطنين وأن يكون رمزاً للدولة اليهودية انخفضت نظرة الهيبة والتبجيل تجاهه في العقدين الأخيرين كتعبير عن الانتماء للدولة.
نحو 40% من المجندين إجبارياً عام 2021 لم يكملوا الخدمة أو امتنعوا عنها لأسباب مختلفة كدراسة التوراة أو الصحة النفسية أو لأسباب عائلية أو الإقامة في الخارج. وأخذت هذه النسبة بالارتفاع وسط جائحة كورونا.
حتى الملتحقين الجدد بالجيش، أغلبهم يفضلون الانضمام لوحدات غير قتالية وغير ميدانية كوحدة 8200 السيبيرانية للتجسس وفك تشفير الموجات الرقمية، لأن الخدمة في تلك الوحدة يؤمن فرص عمل ودخل أفضل بعد انتهاء فترة التجنيد. تآكل مكانة الجيش الإسرائيلي والاقبال عليه يعتبره مسؤولو الأمن الإسرائيلي جزءاً من خطر الوجودي الذي تواجهه الدولة.
"إسرائيل ستنحسر واليهود سيصبحون أقلية مضطهدة... أولئك الذين يستطيعون، سيفرون لأمريكا والغرب" هذه النبوءة التشاؤمية كان لبيني موريس أحد أبرز المؤرخين الإسرائيليين حول مستقبل الدولة عام 2019، مضيفاً "لا أرى لنا مخرجاً منها. يوجد اليوم بالفعل عرب أكثر من اليهود بين البحر ونهر الأردن. كل هذه المنطقة ستتحول حتما إلى دولة واحدة ذات أغلبية عربية".
ففي عام 2018 أصبح الفلسطينيون المقيمون على أرض فلسطين التاريخية أكثرية مقارنة بالسكان اليهود، بالإضافة لملايين اللاجئين الفلسطينيين في الشتات.
القيادات الإسرائيلية ينظرون لتفوق الفلسطينيين الديمغرافي من حيث الأعداد ونسب المواليد كقنبلة موقوتة تهدد بقاء الدولة اليهودية، خاصة في ظل عدم إعطاء الفلسطينيين دولتهم المستقلة في الضفة وغزة ما يدفع نحو المطالبة بحقوق متساوية للجميع في دولة واحدة، وهو ما سيعني انتهاء يهودية الدولة.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة