سياسة
.
"كالمستجير من الرمضاء بالنار".. بهذه العبارة لخص المواطن السوداني، محمد عز، تجربته بعد أن عاد إلى الخرطوم مع أسرته، رغم رحلة نزوح مريرة عاشوها قبل يومين فقط، إثر فرارهم من ويلات الحرب بالعاصمة السودانية إلى ود مدني، في رحلة تمتد لـ188 كيلومترا جنوبي الخرطوم.
عز كان يقطن مع والديه في منطقة القادسية شرق النيل "التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع حاليا"، على حد قوله، ورغم أنهم كانوا يسمعون أصوات المعارك والاشتباكات بين طرفي النزاع من داخل منزلهم، إلا أن السبب الأساسي الذي دفعهم للمغادرة هو خوفهم من الجوع بعدما أغلقت البقالات والمتاجر أبوابها، وخوفهم من نقص الإمدادات الصحية خاصة أن والدي عز مصابان بداء السكري.
ومنذ اندلاع الأزمة السودانية في 15 أبريل، أغلقت أكثر من 60% من مرافق الرعاية الصحية في السودان أبوابها، وفق إحصاءات حديثة لمنظمة الصحة العالمية.
وبعد دخول النزاع أسبوعه الأول، قررت أسرة عز أن تغادر منزلها نحو ود مدني، برفقة بعض الأقرباء الذين التقوا بهم لاحقا، واختارت الأسرة ود مدني تحديدا لوجود منزل مهيئ لهم مجانا، تعود ملكيته لقريبة لهم تسكن خارج السودان، ليصبحوا من بين 330 ألف شخص نزحوا داخليا منذ بداية الحرب، وفق إحصاءات الأمم المتحدة.
في وقت تحاصر فيه المخاوف النازحين داخليا ما بين الهرب من الحرب في الخرطوم، ومخاطر رحلة المغادرة، لم يواجه عز أي صعوبات في الرحلة الأولى إلى مدني، عدا عن نقطة تفتيش واحدة للجيش لدى مدخل ود مدني، لم يتعرضوا خلال المرور بها إلى أي مضايقات، بحسب روايته.
لدى وصول الأسرة إلى مدني، فوجئوا بأن المنزل الذي قصدوه غير ملائم للسكن، فبدأوا في رحلة البحث عن منازل للإيجار، ليصدموا بأسعار "فلكية تصل إلى 50 ألف جنيه سوداني (83 دولار) في اليوم"، في بلد بلغ فيه معدل دخل الفرد حوالي 750 دولارا، وفق أحدث إحصاءات للبنك الدولي.
ولفت عز إلى أن معظم الملاك وسماسرة العقارات يوفرون عقود إيجار يومية بهدف "رفع أسعار الإيجار يوميا"، على حد وصفه.
اضطرت الأسرة إلى اللجوء إلى خيار سكني وصفه عز بالـ "سيئ"، بسعر 10 آلاف جنيه، 16 دولارا، في اليوم.
في يومهم الأول في الشقة، قضت الأسرة 15 ساعة دون كهرباء، كما أنهم فوجئوا بأن الثلاجة والمكيف لا يعملان، في وقت ارتفعت فيه درجات الحرارة إلى أعلى من ٤٠ درجة مئوية في ساعات النهار، ليتخذ عز ووالديه قرارا فوريا بالعودة إلى الخرطوم.
بعد يومين فقط، شد عز ووالداه الرحال للعودة إلى منزلهم في العاصمة، رغم المخاطر التي قد تواجههم، فيما بلغت تكلفة رحلة العودة 3 آلاف جنيه سوداني، 5 دولارات، للشخص الواحد، أي خُمس تكلفة رحلة المغادرة التي بلغت 15 ألف جنيه للشخص 25 دولارا.
الرحلة التي وصفها عز بـ"المرعبة"، كانت على متن حافلة، امتلأت مقاعدها بأشخاص آخرين مروا بنفس تجربة أسرة عز المريرة في ود مدني، وقرروا العودة إلى العاصمة المثلثة.
منذ انطلاقهم من ود مدني، واجهتهم عدة نقاط تفتيش لقوات الدعم السريع، وفي إحداها هدد الأفراد المتواجدين في النقطة السائق، وطلبوا من "العساكر المتواجدين بين الركاب" النزول، في محاولة لمراوغة الركاب.
قبل الوصول لنقطة أخرى، يديرها الدعم السريع، طلب السائق من الركاب إخفاء هواتفهم لأن "الأفراد المتواجدين في النقطة القادمة، يسرقون الهواتف"، على حد وصف عز نقلا عن السائق، الأمر الذي اضطر عز ووالده لإخفاء هواتفهم مع الأم.
قبل الوصول إلى النقطة التي تليها، قال عز إنهم رأوا آليات عسكرية ومعدات عسكرية "تابعة للجيش"، محروقة على جانبي الطريق، أما نقطة التفتيش التالية طالب أفرادها ركاب الحافلة بإعطائهم "سجائر" فقط، وسمحوا لهم بإكمال طريقهم بسلام.
بعد ذلك انتهت نقاط التفتيش، ووصلت أسرة عز إلى محطتها الأخيرة، منطقة المدينة الرياضية بالعاصمة، حيث غادروا الحافلة، ليعيشوا فصلا جديدا من "الرعب".
قال عز "الوقت كان ليلا، والمدينة الرياضية منطقة تشهد توترات شديدة منذ بداية الأحداث لوقوع معسكر يخص الدعم السريع بداخلها. الوصول للمنطقة كان مقطوعا تماما، لا تتوافر المواصلات، كانت لحظات مرعبة.. الخوف الأكبر لم يكن من القصف، بل من عمليات السرقة والنهب المسلح وغيرها".
بقيت الأسرة في الشارع حتى مرت صدفة سيارة متجهة نحو منطقة شرق النيل، حيث يقع منزلهم، ليرافقوا ركابها في رحلة وصفها عز بـ"المخيفة"، إذ أن الشارع كان خاليا من الحركة بشكل عام، وكأن الخرطوم تحولت إلى "مدينة أشباح"، على حد وصفه.
قبل الوصول إلى المنزل، توقفت السيارة التي كانت تقلهم لدى 3 نقاط تفتيش تخص الدعم السريع، آخرها هي "الأسوأ والأكثر رعبا"، بحسب عز.
يقول "النقطة الأخيرة كانت الأسوأ، لأن الفرد الذي كان يديرها ليس سوى طفل، يبلغ عمره 13 عاما يحمل بندقية"، وأضاف "أوقفوا الحافلة وطلبوا من الرجال مغادرتها وطلبوا بطاقات الركاب التعريفية، وسحب أحد الأفراد أقسام بندقيته ووضع إصبعه على الزناد لتهديد الركاب وتخويفهم، واعتدى على بعض الركاب باستخدام خرطوم مقطوع".
في نهاية الأمر سمح أفراد نقطة التفتيش لركاب الحافلة بالمغادرة، ووصلت أسرة عز إلى منزلها، لتختار بذلك "نار الخرطوم" هربا من "كماشة الاستغلال" التي أحكمت قبضتها على الأسرة في ود مدني.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة