سياسة
.
الهدوء كان يعم نابلس صباح يوم الخميس في أول شهر مايو، وفجأة أخرج بعض المارة أسلحة نارية مخفية تحت ملابسهم التنكرية في زي شيوخ ونساء وأحاطوا بمنزل في البلدة القديمة، بينما تقدم نحو مئتي جندي إسرائيلي للاشتباك مع ثلاثة فلسطينيين تحصنوا بتلك البناية.
وسط الاشتباكات، دخلت طائرة استطلاع صغيرة الحجم من إحدى النوافذ، وهمت بالبحث عن الشبان الثلاثة، ثم انفجرت بجوارهم. واستمر الجيش بإطلاق النار والقذائف حتى تأكد قتل جميع المتواجدين بالداخل. هذه العملية قد تشكل مستقبل الهجمات ضد الفلسطينيين وأبعد من ذلك.
في شهر سبتمبر من عام 2022، أعطى رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي الضوء الأخضر لاستخدام الطائرات المسيرة الانتحارية في اغتيال الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويسمح هذا القرار "بتنفيذ ضربات في حالة تحديد المسلحين على أنهم يشكلون تهديدات وشيكة للقوات الإسرائيلية" بحسب صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية.
لذلك يمثل إقرار الجيش الإسرائيلي استخدامه الطائرة المسيرة الانتحارية في عملية اغتيال نابلس منعطفاً هاماً في أسلوبه القتالي في الضفة الغربية، بعد أن كان استعمال الطائرات الهجومية المسيرة أكثر شيوعاً ضد المناطق الغير خاضعة لسلطة الجيش برياً كغزة وإيران ولبنان وسوريا. وتنامت بعد هذه الحادثة دعوات إشادات إسرائيلية بهذا النوع من عمليات الاغتيال عن بعد نظراً لتقليلها الخطر على الجنود الإسرائيليين.
لكن جهات حقوقية تعتبر عمليات الاغتيال المستهدفة ضد الفلسطينيين "إعدام خارج نطاق القضاء" غير مشروع ومخالف للقانون الدولي، حيث يعني الاغتيالات إنهاء حياة فرد دون محاكمته بشكل عادل أو توجيه التهم له وإعطائه الحق بالدفاع عن نفسه.
وقد يشكل اعتماد الطائرات الانتحارية خطراً بأن يتم استعمالها في مختلف المدن الفلسطينية على نحو واسع ضد من ينخرطون بالمقاومة المسلحة، خاصةً في ظل حجم تلك الطائرات الصغير وسرعتها وقدرتها على الوصول لأماكن صعبة وصعوبة رؤيتها والتصدي لها.
وقد تشكل الطائرات الانتحارية مستقبل الحروب وعمليات الاغتيال السرية بين الدول، ويتوقع أن ينمو حجم سوق الطائرات المسيرة لأكثر من 90 مليار دولار بحلول عام 2030. لذا يشكل استخدام تلك الطائرات في الأراضي الفلسطينية "تجريب ميداني" لإثبات مدى فعاليتها وزيادة تنافسيتها في الأسواق.
"حل فتاك ذاتي مبتكر جديد يعتمد على طائرات السباق المسيرة" بصوت رخيم وحماسي يشرح الراوي قدرات المسيرة الإسرائيلية الانتحارية الجديدة "لانيوس" نهاية عام 2022. المقطع المصور بطريقة درامية يبدو وكأنه جزء من أحد أفلام الخيال العلمي الهوليودية عن المستقبل المظلم وحرب الروبوتات.
يصور المقطع طائرة بحجم كف اليد يطلقها جندي بزي إسرائيلي، ثم تطير نحو هدف يبدو كفلسطيني ملثم ومسلح لتصفيته بينما يستمر الراوي في تعداد مميزاتها. تحتوي الطائرة على نظام تحديد المواقع الجغرافي GPS وكاميرات أمامية ومنظومة التعرف على الوجوه والأجسام ورصد وملاحقة الأهداف، بالإضافة لمنظومة ذكاء اصطناعي لمعالجة البيانات لتكون الطائرة شبه ذاتية القيادة. وعند وصلولها للهدف بصمت وتسلل وتأكيد هويته، يضغط الجندي زي التفجير لإنهاء حياة الشخص المطلوب.
يختتم الإعلان التشويقي لشركة "أنظمة إلبيت" الإسرائيلية بموسيقى ناعمة وجنود عائدون بجوار طائراتهم الأليفة تحت عبارة "زيادة معدل الهلاك والفتك مع تعظيم معدل نجاة الجنود".
الطائرات المسيرة الإسرائيلية في العادة تقوم بمهام استطلاع ومراقبة وجمع معلومات وتحديد أهداف. لكن الطائرات الانتحارية اكتسبت شعبية متزايدة في الجيش نظراً لقدراتها القتالية العالية وتقليل المخاطرة بحياة الجنود أو إمكانية القيام بعمليات هجومية سرية.
الطائرة "هاربي" هي أحد أشهر الطائرات الانتحارية المستخدمة في الجيش الإسرائيلي للمهمات البعيدة. ويزين نموذج مكبر لها مدخل شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية IAI المملوكة للدولة كعلامة فخر واعتزاز. المسيرة الانتحارية قادرة على الوصول لمسافة 600 كيلومتر من نقطة الانطلاق بسرعة تصل حتى 185 كيلومتر في الساعة، وتحمل رأس شديد الانفجار. تسوقها إسرائيل تحت مسمى "أطلقها وإنسى أمرها" كونها قادرة على التحليق بشكل مستقل لمنطقة محددة مسبقاً وتحديد الأهداف المشعة. واستخدمت إسرائيل طائرات انتحارية مماثلة لمهاجمة ورش عمل إيرانية للصناعات الدفاعية في أصفهان في شهر يناير الماضي من هذا العام.
وقد تسببت هذه الطائرة في أزمة دبلوماسية بين إسرائيل الولايات المتحدة عام 2004 بعدما طالبت الأخيرة الحكومة الإسرائيلية بإلغاء صفقة بيع بقيمة 55 مليون دولار للطائرات هاربي للصين. ووصل الأمر في حينها لفرض العقوبات على الشركة وإلغاء مشاريع تعاون مشتركة وحرمان إسرائيل الوصول لمشروع تطوير طائرات إف-35 من قبل شركة لوكهيد مارتن الأميركية.
أما في عمليات اغتيال الأفراد قريبة المدى فإن الطائرة المسيرة رباعية المراوح "كواد كوبتر" من نوع روتم هي الخيار الأكثر شيوعاً نظراً لقلة التكلفة وسهولة الاستخدام بجهاز تابلت. الطائرة المصنعة من قبل شركة IAI يبلغ وزنها 4.5 كيلوغرام وبالإمكان طيها ووضعها في حقيبة الظهر، وتحمل قنبلتين ورأس متفجر وبإمكانها الطيران لمدة 45 دقيقة ومسافة 10 كيلومتر وتنفيذ المهمات ليلاً أو نهاراً نظراً لاحتوائها على أجهزة استشعار وكاميرات تصوير حديثة. وتستطيع الطائرة التسلسل من النوافذ أو الأبواب. شركة IAI طورت نسخة شبيهة بهذه الطائرة لصالح وزارة الدفاع الأميركية باسم بوينت بلانك في شهر يناير الماضي بعد اثبات كفاءة الطائرة روتم.
"الزنانة تأكل معي" هو اسم كتاب ألفه وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف للتحدث عن تجربة العيش في قطاع غزة المحاصر، حيث تشكل الطائرات الإسرائيلية هاجساً يومياً للفلسطينيين. صوت ضجيج الطائرات المسيرة هيرمس 900 يسمعه كل سكان القطاع على مدار الساعة تقريباً، لذلك يطلقون عليها اسم "الزنانة".
الطائرة بإمكانها التحليق في دائرة بشكل مستمر لأربعين ساعة للقيام بمهام استطلاع وجمع معلومات. لكنها أيضاً مزودة بصواريخ أرض جو وقنابل موجهة بالليزر قادرة على تدمير أي هدف في أي لحظة. لذا يشعر الفلسطينيون في غزة بأنهم في دائرة الاستهداف وتحت أعين المراقبة بشكل مستمر.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة