سياسة
.
وقف إياد أمام بيته المدمر في دير البلح يوم الجمعة ليشرح تفاصيل المكالمة التي قلبت حياته رأساً على عقب وشردت عائلته ونحو ثلاثين عائلة أخرى من منازلهم. "نريد أن نقصف بيت أبو عبيد، عليك إبلاغ السكان والناس الموجودة بجوار المنزل" هكذا أخبره ضابط الجيش الإسرائيلي على الهاتف وبين له بالتحديد أسماء العائلات الواجب عليه إخلاؤها.
"بلغني أنهم سيلقون قنبلة كبيرة ونبه علينا أن نبتعد مئة متر أقل شيء عن المكان". بعد فترة وجيزة من الزمن، قصفت الطائرات الإسرائيلية منزلاً من ٥ طوابق، لكن منزل إياد المجاور والعديد من المنازل المحيطة أصيبوا بأضرار بالغة.
"بيتي الآن أيل للسقوط ولم يعد صالحاً للسكن.. البيوت مدمرة تدميراً كاملاً في المربع بأكمله".
السؤال الذي قد يتبادر لذهن القارئ هو: ما الهدف من قصف منزل مدني بعد إخلائه من سكانه؟
يدعي الجيش الإسرائيلي بأن قصفه لغزة كان "دقيقاً" ومقتصراً على "أهداف أمنية". لكن حصيلة التصعيد الإسرائيلي على القطاع المحاصر ضمت 20 منزلاً مدنياً تم تدميرهم بشكل كامل بواقع 56 وحدة سكنية، بالإضافة لإلحاق الأضرار بنحو 940 وحدة سكنية بينها 49 أصبحت غير مأهولة للسكن. بعض هذه المنازل تم استهدافهم بعد إخطار السكان بالإخلاء الفوري، وهو ما ينم عن هدف عقابي غير أمني من وراء هذا القصف.
ففي كل حرب تشنها إسرائيل على قطاع غزة، تتنوع الهجمات بين عمليات اغتيال صريحة، وقصف أراضٍ فارغة، أو مواقع حكومية ومنشآت حيوية كمحطة الكهرباء، أو أبراج سكنية عالية وغيرها. ويدلل نمط القصف الإسرائيلي أن اختيار الأهداف لا يكون سببه دائماً عسكرياً أو أمنياً، وإنما يكون الهدف في بعض الأحيان هو إيلام سكان القطاع للضغط على قادة الفصائل الفلسطينية والتأثير على الفلسطينيين ليبغضوا فكرة العمل المسلح.
هذا الأمر دفع المحقق الأممي والقاضي المرموق ريتشارد غولدستون لاستنتاج أن هدف حرب الرصاص المصبوب عام 2008 كان "مخططاً بعناية... لمعاقبة السكان المدنيين وإذلالهم وإرهابهم".
وتعتبر المنظمات الحقوقية العالمية مثل هيومن رايتس ووتش بأن القصف الإسرائيلي للمنازل والأبراج السكنية قد يمثل سياسة "عقاب جماعي" ترقى "لجريمة حرب"، إذ أنه من غير المرجح أن يكون لتلك الأهداف المدنية قيمة أمنية.
في شهر نوفمبر من عام 2019، ألقت طائرة إسرائيلية بصاروخ ثقيل على منزل مصنوع من الصفيح في دير البلح وقتل كل أفراد العائلة الثمانية بداخله. الجيش الإسرائيلي في حينها ادعى بأن البيت كان "مقرا لإطلاق الصواريخ تابع لحركة الجهاد الإسلامي". لكن بعد ظهور الضحايا المدنيين، قال الجيش إن المنزل المقصوف كان هدفاً معداً بشكل مسبق قبل عدة شهور بانتظار أي تصعيد عسكري لتبرير استهدافه وأن اعتقاده بأنه البيت كان مقراً عسكرياً جاء بناءً على "إشاعات من السوشال ميديا" دون التحقيق من صحة المعلومات أو إمكانية وجود مدنيين بالقرب من المكان.
قبل أي عملية عسكرية إسرائيلية على غزة، تقوم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بتحضير بنك من الأهداف المختلفة بشكل مسبق ليتم الاختيار منه في أي معركة قادمة.
تضم قاعدة البيانات تلك إحداثيات ومعلومات استخبارية عن بعض أراضٍ للتدريب العسكري، ومرافق حكومية، ومواقع محتملة لتصنيع أو تخزين الصواريخ محلية الصنع، وتخمينات بمواقع أنفاق أو أماكن تواجد قادة من الفصائل الفلسطينية، ومنازل الأعضاء المنتمين لتلك الفصائل وأجهزتها العسكرية، وأبراج سكنية ومرافق حيوية مهمة في القطاع. وترصد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أهدافاً جديدة بناءً على معلومات مستمدة إما باستخدام أدوات التصنت والتجسس على الفلسطينيين في غزة أو مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر عملاء مجندين على الأرض أو من خلال المراقبة المستمرة للقطاع بطائرات الاستطلاع الحربية.
الأهداف المضافة لقاعدة البيانات ليس من الضروري أن تكون دقيقة أو استراتيجية أو ذات بعد أمني. وعلى الرغم من ادعاء الجيش الإسرائيلي بأنه يتم التأكد من صحة الهدف قبل قصفه بأيام قليلة، إلا أن جنود المخابرات العسكرية الإسرائيلية أفادوا بأنه "في الغالب لا يوجد نشاط استخباراتي مهم للتحقق مع هدف موجود بالفعل، لأن إنشاء أهداف جديدة هي أكثر أهمية. هذا ما يحسبونه لك في النهاية".
في الواقع الجنود الإسرائيليون لديهم الحافز لخلق أهداف جديدة وإن كانت مبنية على معلومات استخباراتية ضعيفة.
"الفريق الذي يجلب أهدافًا جديدة يمكنه الحصول على جميع أنواع الفوائد، مثل رحلة عمل ميدانية أو أيام عطلة، أو يمكن إعلانه الفريق الأكثر نجاحا.
وجهة نظر الجيش الإسرائيلي هي أن النجاح يقاس بعدد الأهداف التي تخلقها، وعدد الأهداف الجديدة التي يتم إدخالها في قاعدة البيانات"، هكذا أخبر جندي إسرائيلي صحيفة هآرتس عام 2019. وقد نمى بنك الأهداف هذا بنسبة 400% خلال عام واحد بعد عملية حارس الأسوار صيف 2021 على غزة، لكن ضباط استخبارات إسرائيليون كبار أفادوا بأن بوجود "إشكاليات كبيرة" في جودة الأهداف المضافة.
"أعطنا عشرة دقائق فقط" هكذا تذكر مالك برج الجلاء في غزة مكالمته مع الضابط الإسرائيلي على الهاتف في مكالمة رصدتها كاميرات الإعلام على الهواء مباشرة عام 2021.
الضابط الذي رفض الطلب قطعاً كان قد اتصل على صاحب البرج جواد مهدي ليأمره بإخلاء جميع السكان في داخله تمهيداً لقصفه بالكامل، بينما شرح له مهدي بأن المبنى لا يحتوي إلا على مقرات وكالات صحفية.
أصرت إسرائيل بعدها على أن البرج الذي ضم مقر وكالة أسوشيتد برس كان يشكلُ هدفاً عسكرياً لإيوائه شقة تابعة لأجهزة الأمن الداخلي الحكومية، وهو ما ردت عليه جهات حقوقية بأنه حتى وإن كان المزعم المطعون فيه صحيحاً فلماذا لم يكتف الجيش باستهداف الشقة المذكورة فقط والإبقاء على البرج.
ثم عاود الجيش الإسرائيلي تغيير روايته وسحب الأدلة التي نقلها للحكومة الأميركية وتبديلها. وبعد خمسة أشهر على الحادثة أقر ضابط إسرائيلي بأن استهداف البرج كان "خطأً"، بينما أضاف آخر بأن إسرائيل لم تكن تعرف بأن البرج احتوى على مكاتب لوكالات إعلامية أجنبية. فلماذا استهدف البرج إذا في ذاك الوقت تحديداً ودون مبرر واضح؟
بحسب تقرير إسرائيلي معتمد على مصادر أمنية، تستبدل الحكومة الإسرائيلية سياسة هجومها على غزة لتضم "أحياء سكنية بدلاً من مواقع عسكرية" بهدف "جعل السكان يفهمون ثمن التصعيد ووضع حماس في مأزق أمام الشعب". ويكون ذلك في حال وصل التصعيد لنقطة معينة تود إسرائيل حينها إيصال تلك الرسالة.
في المقابل، بعد نهاية جولة التصعيد الإسرائيلية الأخيرة ضد حركة الجهاد الإسلامي وإقرار الهدنة، انطلق صاروخ محلي الصنع تجاه الأراضي المحيطة بغزة وسقط في أرض مفتوحة (قال مصدر من الفصائل بأنه خطأ فنيا)، ورد الجيش الإسرائيلي على ذلك بقصف برج مراقبة حدودي صغير دون إيقاع أي إصابات.
الحادثان هما جزء من نمط متكرر يدل على أن اختيار الحكومة الإسرائيلية أهدافاً معينةً من قاعدة بيانات بنك الأهداف تعتمد في معظم الأحيان على حسابات سياسية وقد لا يكون لها أي أهمية عسكرية أو أمنية استراتيجية.
عادة عندما يطلق صاروخ واحد أو صاروخين من غزة من أحد التنظيمات صغيرة الحجم أو جهات مجهولة ويصيبان أرضاً مفتوحة أو تعترضهما القبة الحديدة، تكون معظم الأهداف الإسرائيلية عند الرد هي أراضٍ فارغة يدعي الجيش بأنها مواقع تدريب أو ورش تصنيع وأماكن تخزين سلاح مزعومة. وغالباً ما تكون هذه الأهداف تابعة لحركة حماس باعتبارها الجهة الحاكمة الفعلية في غزة والمسؤولة عن فرض تفاهمات التهدئة.
لكن في حالة الدخول في تصعيد عسكري مع فصيل الجهاد الإسلامي كما في الجولة الأخيرة، ترفع إسرائيل من حدة وقوة قصفها، لكن مع محاولة تجنب أي أهداف تابعة لحماس لتقليل فرص انضمامها للمعركة.
ويزداد مدى الهجمات الإسرائيلية في حال ألحقت صواريخ الجهاد الأضرار بأي إسرائيليين أو مباني داخل الخط الأخضر.
لذلك، بعد إصابة صاروخ فلسطيني مبنىً في رحوفوت وقتل إسرائيلية وإصابة ثمانية، توعد وزير الدفاع الإسرائيلي برد قاسي "وغير متناسب" وصعد الجيش من قصف المنازل المدنية.
"عدم التناسب" يعني إلحاق الضرر بشكل يتجاوز ما هو مطلوب لتحقيق مهمة عسكرية، ويعتبر انتهاك مبدئ التناسب في المعارك مخالفة صارخة للقانون الدولي.
وفي حال دخول حماس على خط المواجهة، يصعد الجيش الإسرائيلي من بنك الأهداف ليضم مناطق حيوية ومنازل ومرافق حكومية وأبراج سكنية.
الجيش الإسرائيلي أعطى مسمىً لقصف الأبراج السكنية في بنك الأهداف وهو "أهداف قوة" [power targets]. ويشير هذا المصطلح لمبانٍ مكونة من أربعة طوابق وما فوق، غالباً ما تكون في قلب المدنية، ويتم استهدافها في حالات تطور التصعيد لمدى معين.
بالنسبة للجيش الإسرائيلي، يكفي أن يكون أحد ساكني أو زائري أحد الأبراج العالية المستهدفة في غزة أن يكون على صلة بأحد الفصائل الفلسطينية لتبرير استهداف البرج بأكمله في هذه الحالة والقول إنه هدف مشروع، حتى وإن خالف ذلك القانون الدولي. وهو ما قامت إسرائيل في قصفها منزل أبو عبيد في دير البلح يوم الجمعة وتشريد عشرات العائلات من المنازل المحيطة.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة