سياسة

بعيون الابن.. "قرن" لهنري كيسنجر

نشر

.

Mohamed Salah Eldin

يتذكر ديفيد كيسنجر نجل وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر، موقفا من طفولته يُلخّص قرنا من حياة السياسي الأشهر في العالم، وكيف يتعامل مع خصومه. يحكي ديفيد عن ضيف دائم، وغريب في منزلهم: سفير الاتحاد السوفييتي أناتولي دوبرينين.

سفير العدو اللدود كان يحضر لمنزل عدوه للعب الشطرنج بينما يتفاوضان في قضايا تؤثر على الكوكب بأكمله، وهو ما ساعد في تهدئة التوترات بين القوتين النوويتين إبان الحرب الباردة.

هكذا كان يدير كيسنجر أهم ملفات السياسة الخارجية.

اليوم يكمل كسينجر عامه المائة، وهو بحسب مقالة ابنه، ديفيد، في واشنطن بوست، لا يزال متقد الذهن يعمل على طرح أفكاره في لقاءات تلفزيونية، إضافة إلى كتابين أنتجهما خلال العامين الماضيين فيما يعكف على إخراج الثالث إلى النور.

عاد كيسنجر الأب في وقت سابق من الأسبوع الماضي من مؤتمر بيلدربيرغ في العاصمة البرتغالية لشبونة قبل بدء "احتفالات المئوية" التي تمتد من نيويورك إلى لندن إلى مسقط رأسه مدينة فورث الألمانية.

المراهق الهارب من النازي

مراهق، فرّ هنري من الهولوكوست في ألمانيا النازية فاقدا 13 من أفراد عائلته وعددا لا يُحصى من الأصدقاء، قبل أن يعود مرة أخرى إلى موطنه شابا، لكن كجندي أميركي يشارك في تحرير معسكر اعتقال أهليم بالقرب من هانوفر.

شاب، وكهل، وشيخ يبلغ المائة من العمر، ظل قلب كيسنجر وعقله دائم الانشغال بالقضايا العالمية ما بين الأسلحة النووية في خمسينيات القرن الماضي، وظل حتى في سن 95 مهووسا بالآثار الفلسفية والعملية للذكاء الاصطناعي، بحسب ابنه ديفيد.

جولة في شوارع العاصمة الفرنسية باريس عام ١٩٧٥. أ ف ب

بدأ الشاب كيسنجر رحلته العملية طالبا بجامعة هارفرد كأستاذ جامعي ومديرا لبرنامج دراسات الدفاع لعقد من الزمن حتى العام 1969، وهي الفترة التي طرح فيها استراتيجية "الرد المرن" الذي يجمع بين استخدام الأسلحة النووية التكتيكية والقوات التقليدية على الاتحاد السوفييتي والتي كان لها تأثيرا كبيرا على إدارة الرئيس الأميركي جون كينيدي بحسب موسوعة بريتانيكا.

دخوله عالم السياسة كان عبر تعيينه مساعدا للرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي قبل رئاسته مجلس الأمن القومي، ثم وزيرا للخارجية في فترة مفصلية من تاريخ الولايات المتحدة والعالم ما بين الحرب الباردة وفيتنام والعلاقات مع الصين وحرب أكتوبر 1973.

سياسة الشطرنج

من خلال "أدوار" الشطرنج مع سفير الاتحاد السوفييتي استطاع كيسنجر إجراء محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، SALT، مع موسكو، والتي انتهت باتفاقية SALT I عام 1972.

صورة من اللقاء السري الذي جمع كيسنجر برئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي في بكين ١٩٧١. أ ف ب

كما تُلعب الخطط على رقعة الشطرنج، أحدث كيسنجر خرقا في صفوف المعسكر الشيوعي مستغلا الخلاف الصيني- السوفييتي فبدأ محاولات التواصل مع بكين والتي تكللت بزيارة سرية عام 1971، كشفتها فيما بعد وثائق وكالة الأمن القومي الأميركي، والتي أعقبها منح مقعد دائم للصين في مجلس الأمن، ليفتح الباب لتطبيع العلاقات بينهما بصورة كاملة عام 1979.

ساعد كيسنجر في سياسة إحلال القوات الفيتنامية الجنوبية محل القوات الأميركية، وقاد مفاوضات وقف إطلاق النار مع القائد الفيتنامي لي دوك ثو ليحصلا مناصفة على جائزة نوبل للسلام التي رفضها مفاوضه الفيتنامي.

نصيحة بقتل ٩٠٠ ألف

كعادة بعض لاعبي الشطرنج، الذين ينظرون للصورة النهائية، بغض النظر عن الخطوات في سبيلها، يواجه كيسنجر اتهامات بتحمل مسؤولية مقتل 900 ألف مدني في كمبوديا ولاوس المجاورتين لفيتنام، عندما نصح نيكسون عام 1969 بضرب المناطق الحدودية بين فيتنام ولاوس، بحسب وثائق الخارجية الأميركية.

مظاهرة في جنيف احتجاجا على ندوة لكيسنجر بسبب تورطه في جرائم وقت توليه مسؤولية الخارجية الأميركية. أ ف ب

في سجال المعارك الدائرة بين العرب وإسرائيل في أكتوبر 1973، كان كيسنجر يؤدي دوره المفضل في التفاوض والعمل بين الأطراف فيما عرف بـ"دبلوماسية المكوك" لفض الاشتباك وتعزيز الهدنة بين الجيوش العربية وإسرائيل، ليعمل لاحقا على استئناف العلاقات المصرية الأميركية التي انقطعت منذ خمسينيات القرن الماضي، وقضت عليها الهزيمة في حرب العام ١٩٦٧.

اعرف أكثر عن

كيسنجر والاتفاق السعودي- الإيراني

في أعقاب البيان الثلاثي بين إيران والسعودية والصين الذي أعلن عودة العلاقات بين طهران والرياض برعاية بكين، كتب ديفيد إغناتيوس مقالة في واشنطن بوست قال فيها إنه سأل كيسنجر عن هذه الخطوة فكان رده أن ثمة تغيير جوهري في الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وأن السعوديين يوازنون الآن أمنهم.

يروي كيسنجر لإغناتيوس أن الصين أخذت خطوة كمشارك في إنشاء النظام العالمي من خلال هذا التحرك، وأن أي ضغط على إيران يجب أن يؤخذ في مقابله المصالح الصينية في الحسبان، وأن ظهور الصين كـ "صانعة سلام" يغير الشروط المرجعية في الدبلوماسية الدولية، معترفا بأن الولايات المتحدة لم تعد القوة الوحيدة التي لا غنى عنها في المنطقة.

حرب الصين وأميركا

زاد التوتر بين بكين وواشنطن بسبب القضايا المتعلقة بالتجارة وحقوق الملكية الفكرية والتكنولوجيا والأمن السيبراني. نتيجة لذلك، تبادلت الدولتان فرض رسوم جمركية، مع اتخاذ إجراءات لتقييد تدفق الاستثمار ونقل التكنولوجيا بينهما.

تسعى الصين لتحقيق التفوق التكنولوجي والابتكار من خلال مبادرات مثل "صنع في الصين 2025"، التي تهدف إلى تعزيز الصناعات الرئيسية مثل التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والروبوتات، فيما تحاول الولايات المتحدة الحفاظ على تفوقها التكنولوجي والابتكار من خلال استثمارات في البحث والتطوير وتشجيع الابتكار العلمي والتكنولوجي.

ترحيب حار من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضيفه الأميركي أثناء زيارة لموسكو عام ٢٠٠٦. أ ف ب

تتهم الصين الولايات المتحدة بالتعامل بعقلية الحرب الباردة ومساعي احتوائها من خلال التحالفات التي تقيمها مع دول المنطقة مثل AUKUS والذي يضم معها أستراليا وبريطانيا، إضافة إلى الحوار الأمني الرباعي المعروف باسم QUAD والذي يضم أستراليا والهند واليابان، فضلا عن دعم واشنطن لتايوان التي تسعى للانفصال عن الصين فيما تراها بكين جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية.

في حوار له مع شبكة بلومبرغ الأميركية يشير كيسنجر إلى أهمية فهم أن "الصين لا يمكن تدميرها"، ولذلك من الأهمية إيجاد طريقة للتعايش معها، ومنعها من الهيمنة ولكن هذا لن يحدث بالمواجهة المستمرة، فالأمر يحتاج بعض فترات من التكيف وفترات أخرى من المواجهة، وتصميم استراتيجية.

آراء متضاربة عن روسيا وأوكرانيا

مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022 خرج هنري كيسنجر برأي يخالف كل الآراء الغربية بالقول إن على أوكرانيا التنازل عن أراض لروسيا، ناصحا الغرب بإجبار أوكرانيا على قبول المفاوضات، أمر أثار انتقادات المسؤولين الأوكرانيين.

كيسينجر عاد عن رأيه مطلع العام الجاري مشددا على ضرورة استمرار الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا حتى الوصول إلى خطة لوقف النار، أو قبوله في المناقشات الأولية، معربا عن إعجابه بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي و"سلوكه البطولي" كما أكد على اعتقاده بأن عضوية كييف في حلف الناتو ستكون ذات يوم "نتيجة مناسبة".

في الوقت ذاته أشار كيسنجر إلى أهمية منح روسيا الفرصة للعودة مستقبلا، إلى النظام الدولي بعد اتفاق سلام في أوكرانيا، وأن على الغرب الاستمرار في الانخراط في مفاوضات مع روسيا وعدم السماح لها بالشعور بوجود حرب ضد موسكو نفسها.

كيسنجر والذكاء الاصطناعي

١٠٠ عام، ولا يزال عقل كيسنجر مهتما بتفاصيل حياة الشباب، إذ نشر في العام 2021 كتابا بعنوان "عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبلنا البشري" بالتعاون مع كل من إريك شميدت ودانيل هوتنلوتشير.

في حوار مع شبكة CBS الإخبارية الأميركية، يحذر من أن السرعة التي يعمل بها الذكاء الاصطناعي ستجعله إشكاليا في حالات الأزمات، ويطرح الكتاب الثلاثة وفقا لمقال نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية العام تساؤلات مهمة حول هذه التكنولوجيا، مثل ماذا يحدث إذا لم يكن بالإمكان التحكم فيها بشكل كامل؟ ماذا لو كانت هناك دائما طرقا لتوليد الأكاذيب والصور الزائفة ومقاطع الفيديو المزيفة؟

وحينما سئل كيسنجر عن سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي كان رده بالإيجاب لكن "ستكون حربا مختلفة، وهي مشكلة جديدة تماما من الناحية الفكرية".

حمل التطبيق

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة