حرب أكتوبر.. الصراع يبدأ على "الذاكرة" بعد حسم الميدان

من الذي انتصر في معارك حرب 6 أكتوبر 1973 ليكتب تاريخها؟

إذا سألت أي عربي هذا السؤال فالإجابة ستكون دائماً مصر. سيذكر لك عبور خط برليف وقناة السويس ومباغتة العدو على غفلة، واستعادة سيناء بعد انسحاب إسرائيل وقبولها بالمفاوضات عقب الهزيمة.

كرّر السؤال نفسه على جمهور إسرائيلي، ستكون الإجابة عكس ذلك، وسيذكر لك الهجوم المضاد يوم 22 أكتوبر الذي اخترق وقف إطلاق النار، وعبور شارون قناة السويس وحصار الجيش المصري الثالث، وخسائر الجيوش المصرية والسورية الأكبر عدداً من الجيش الإسرائيلي.

مصر والدول العربية، يعتبرون الانتصار في استعادة الروح المعنوية للشارع العربي عبر ضرباتها الموجعة لإسرائيل أول أيام الحرب وفي تحرير سيناء في اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، بينما ترى إسرائيل نصراً لها في نيل اعتراف مصر بها عبر توقيع اتفاقية السلام.

أما سوريا، التي لم توقع سلاماً ولم تتمكن من تحرير الجولان في المعارك، فلا تحظى حرب أكتوبر بنفس المكانة الكبرى التي تحظى بها في مصر.

التاريخ بعبارة أخرى هو قصة يفصلها الراوي عبر جمع قطع متناثرة، بحسب الكاتب الأميركي البارز ريتشارد كوهين، والمؤرخ "يغرس في التاريخ، ربما عن غير وعي، شخصية روحه وشخصياته. يبدو أن لديها طريقة واحدة فقط في التفكير والشعور، وهي طريقة المؤلف".

يأتي هنا دور الأرشيف القومي في صياغة الروايات التاريخية المختلفة وإشباع الهوية القومية بتلك الروايات وفقاً للمؤرخ ستفين بيرغر.

لتدشين ذكرى الحرب الخمسين، أطلقت وزارة الدفاع الإسرائيلية موقعاً إلكترونياً لأرشيف جديد مخصص لحرب يوم الغفران (يوم كيبور).

الموقع الشامل يضم 15 ألف صورة، و6 آلاف وثيقة، و215 فيلما، و40 شريطا، و170 خريطة بشكل منهجي. وما تزال تحتفظ الحكومة الإسرائيلية بسرية بعض الوثائق.

قد يؤدي الموقع الجديد لثلاثة نتائج ظاهرية:

النتيجة الأولى: التذكير بجيل الحرب وإحياء ذكراها في أذهان الإسرائيليين وروح القتال بعد خمسة عقود. فالصور توثق العديد من اللحظات في الحرب.

نشاهد الجنود في حياتهم اليومية وهم يغنون ويعزفون الموسيقى، والمركبات العسكرية وصور زيارات القيادات السياسية والأمنية الميدانية. ومقاطع الفيديو بعضها مقابلات نادرة لقيادات سياسية كرئيسة الوزراء غولدا مائير وهي تتفاخر بأداء الجيش.

النتيجة الثانية: يبدو أنها استعراض للتفوق الاستخباراتي، حيث تزعم العديد من الوثائق وصول معلومات للمخابرات الإسرائيلية حول اقتراب الحرب، بل وموعدها، وأن مفاجأة الإسرائيليين من اندلاع الحرب في يوم السادس من أكتوبر كان سببه سقطة في تحليل المعلومات الاستخباراتية، لا نقصها.

والنتيجة الثالثة: تدعيم الرواية الإسرائيلية التاريخية المؤمنة بالمعجزات حول مجرى الحرب، وكيف أن إسرائيل التي تلقّت ضربات فجائية موجعة أول الحرب كادت أن تطيح بها، تمكنت من التغلب على ذلك الضعف بعزيمة وثبات، بحسب الرواية الإسرائيلية.

باستثناء ما قدمه الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في كتاب "حرب أكتوبر.. السلاح والسياسة" من وثائق اطّلع عليها بحكم قربه من السلطات المصرية، لم تفرج مصر حتى اللحظة عن الأرشيف الكامل لحرب أكتوبر.

لذلك يلجأ مؤرخو الصراع الغربيين للأرشيف الإسرائيلي نظرا لسهولة الوصول للمعلومات ويستقي بعضهم مصادره المصرية إما عن طريق ما نشرته الصحف والإذاعة المصرية وقت الحرب، أو من شهادات مختلفة لأفراد شاركوا في المعارك.

حمل الخبير الفرنسي مستر روز أمتعته وشد رحاله لمصر أوائل القرن التاسع عشر لمهمة رسمية. حاكم مصر محمد علي باشا، أبدى اهتماماً بما أنتجته ثورة 1789 الفرنسية من مؤسسة قومية لحفظ تاريخ الحقبة السابقة عام 1794، وأوكل إلى روز مهمة المساعدة في تطوير تشريعات خاصة تستند إلى الأنظمة واللوائح المستخدمة في الأرشيفات الوطنية الفرنسية.

عام 1828 أسس محمد علي رسمياً "الدفترخانة" ليكون أحد أقدم دور الأرشيف في العالم، فلم تؤسس بريطانيا مكتب السجلات العامة إلا بعد مصر بـ10 سنوات كاملة.

جمع بعدها الخديو إسماعيل الأرشيف من الوزارات ووضعه في مبنى القلعة في القاهرة، ليقوم الملك فؤاد لاحقاً بوضع الأرشيف في قصر عابدين، ومن ثم يعيد الضباط الأحرار الأرشيف إلى القلعة، قبل أن يستقر أخيرا في مبنى كورنيش النيل بالقرب من ماسبيرو، مبنى التلفزيون.

الأرشيف القومي المصري يعد من أهم الأرشيفات في العالم، نظرًا للعدد الهائل من المواد التاريخية وملايين الوثائق والمخطوطات التي يحتوي عليها والتي يعود بعضها للعصور العباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية.

تعكس تلك الوثائق المكتوبة بعشرات اللغات المختلفة المكانة الرئيسية التي احتفظت بها مصر لفترة طويلة في تاريخ العالم.