ضجت مواقع التواصل بمعلومات عن شخصية لبنانية كانت من أشدّ المطالبين بالتدقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان، ولكن التحقيق أظهر أن منظمة شارك في تأسيسها تورطت في الحصول على تمويل من "المركزي اللبناني".

نتائج التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، والصادرة قبل أيام، كشفت عن تلاعب في حسابات البنك المركزي، وخسائر سُجّلت "أرباحا منتظرة"، وعن مراكمة للديون، وتحويلات غير شرعية بملايين الدولارات.

وطال انتظار نتائج هذا التقرير في بلد يعاني أزمة اقتصادية غير مسبوقة منذ أكتوبر ٢٠١٩، وخسرت الليرة ما يزيد عن الـ٩٨٪ من قيمتها.

الدول المانحة من جانبها، طالبت بإجراء تدقيق جنائي بعد تعرض لبنان لانهيار مالي، منع معظم المودعين من الحصول على مدخراتهم منذ 2019. ويغطي التدقيق الفترة بين 2015 و2020.

فما أبرز ما جاء في تقرير "ألفاريز آند مارسال" بشأن لبنان؟ وهل تورط أحد أشرس المطالبين بالتقرير، في الحصول على تحويلات مالية مشبوهة؟

طالب بالتدقيق الجنائي فظهر اسمه

هنري شاوول، حائز على دكتوراة في الاقتصاد، عمل مستشارا لوزير المال في لبنان وشارك ضمن الوفد المفاوض مع صندوق النقد الدولي، لكنه قرر الاستقالة من منصبه في يونيو ٢٠٢٠. ظهر اسمه على منصة X، تويتر سابقا، ضمن قائمة الأشخاص والمنظمات التي حصلت على دعم يفوق ١٠٠ ألف دولار بين عامي ٢٠١٥ و٢٠٢٠.

بالفعل يظهر التدقيق الجنائي جمعية "المدراء الماليون اللبنانيون الدوليون"، لايف، ضمن قائمة أسماء ٢٣ شخصا ومؤسسة حصلت على دعم لهم يفوق ١٠٠ ألف دولار، وبالفعل من خلال مراجعة رخصة تأسيس الجمعية، يتبين في قائمة المؤسسين اسم هنري جوزف شاوول.

حاول موقع بلينكس الاتصال مرارا بشاوول، لكن تعذر الوصول إليه للوقوف عند صحة المعلومات المتداولة.

كلنا إرادة: لا علاقة لنا بـ"لايف"

إلا أن الاتهامات المتداولة على موقع X لم تتوقف عند هذا الحدّ، بل طاولت أيضا "كلنا إرادة"، وهي منظمة "ملتزمة بالإصلاح السياسي في لبنان"، وفق ما تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني، فوفق الأخبار المتداولة أن شاوول ساهم أيضا في تأسيس "كلنا إرادة" و"لايف" تساهم في تمويل المنظمة.

لكن "كلنا إرادة" نفت في حديث لموقع بلينكس هذه المعلومات، موضحة أنه من الممكن أن يكون شاوول قد ساهم في تأسيس المنظمتين، وهذا الأمر ينطبق على مؤسسّين آخرين ربما أسسوا منظمات أخرى، لكن "كلنا إرادة لم تتلق أي تمويل من لايف وهي مستقلة عنها استقلالا تاما"، بحسب ما أخبروا به بلينكس في اتصال هاتفي.

اعرف أكثر عن..

التدقيق الجنائي

• تقرير شركة ألفاريز آند مارسال، المؤلف من 332 صفحة و14 فصلا، يلفت إلى غياب التدقيق والرقابة الداخلية في مصرف لبنان، وإلى أن ميزانيته لا تعكس الواقع. وفي حين يغطي التدقيق الجنائي الفترة الممتدة فقط من 2015 إلى أوائل 2020، فالخسائر تشمل هذه الفترة الزمنية حصرا.

• يُظهر قسم المداخيل في ميزانية مصرف لبنان أرباحا قدرها 40 مليون دولار سنويا. وضمن هذا الإطار يشدد المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان على أن مسؤولية الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة، عن هذه المخالفات واضحة فهو "حفّز النمو الاقتصادي من خلال مراكمة الخسائر وزيادة الديون، واعتبر الخسائر أرباحا مؤجلة".

• استخدم مصرف لبنان معايير محاسبية غير تقليدية لإعداد بياناته المالية (وخصوصا لزيادة ربحيته المزعومة)، على عكس البنوك المركزية الأخرى، وأن المصرف المركزي فعل ذلك من دون أي شفافية وإخفاء الكثير من المعلومات، وفق التقرير، والبيانات الوحيدة التي ارتكز عليها المركزي هي الرجوع إلى دليله المحاسبي المعتمَد من المجلس المركزي، والمعدّل مرات عدة بين عامي 2016 و2018.

• سمح المجلس المركزي لرياض سلامة بالقيام بما يريده دون أي رقابة. ونقل التدقيق عن محاضر اجتماعات المجلس أن "حاكم مصرف لبنان احتكر المناقشات والقرارات"، وأن المجلس "لم يحقق الحدّ الأدنى من معايير الحكم الرشيد الموجودة في ممارسات البنوك المركزية على الصعيد الدولي. وقال سلامة إن المجلس وجد أن الهندسة المالية هي "أفضل معالجة لتدهور ميزان المدفوعات" وأنه لم "يتدخل" في اتخاذ القرار بشأنها.

• يتألف المجلس من حاكم المصرف (رياض سلامة)، و٤ نواب، و٢ من كبار المسؤولين الحكوميين. وقال التدقيق إن نواب الحاكم الـ٤ الذين عينوا في يونيو 2020، وتحديدا النائب الأول للمحافظ وسيم منصوري الذي يتولى حاليا منصب الحاكم المؤقت، كانوا يميلون إلى "معارضة الحاكم في تفكيره".

أكثر وأكثر عن..

فجوة مالية ضخمة

• تراجعت ميزانية مصرف لبنان من ربح 7.2 مليارات دولار نهاية عام 2015، إلى خسارة 50.7 مليار دولار نهاية عام 2020. وأصبحت صافي ثروته (رأس المال) سالب 51.3 مليار دولار بنهاية عام 2020.

• لبنان الذي بلغ الناتج المحلي الإجمالي 31.2 مليار دولار بات لديه فجوة بالعملات الأجنبية بقيمة 71.9 مليار دولار في نهاية عام 2020، حسب تقرير التدقيق الجنائي. تدهور الوضع المالي لمصرف لبنان بشكل سريع لكن ذلك لم ينعكس في الميزانية وبيان الدخل المعد وفقا للمعايير المحاسبية غير التقليدية التي اعتمدها المصرف لنفسه.

الهندسات المالية.. ماذا تعني؟

• الهندسة المالية التي اعتمدها لبنان كانت باهظة الثمن، وكلّفت 115 ألف مليار ليرة نهاية 2020. واعتبرت شركة "ألفاريز ومارسال" أن الهندسات المالية كانت "مكلفة". وأوردت أن سلطة سلامة، صاحب القرار الرئيسي، لم تخضع لـ"رقابة" كافية.

• دعت المؤسسة إلى اتخاذ خطوات سريعة "لزيادة الحوكمة، وتدابير الرقابة والتدقيق للتخفيف من أي مخاطر أخرى ناشئة عن سوء الإدارة". وسجلت الخسائر إثر ذلك في مدخلات "الأصول الأخرى" و"حسابات التسوية"، في حين لم تظهر الميزانية أي خسارة. إضافة إلى ذلك لم تعرض بيانات الدخل من 2015 إلى 2020 للجمهور. ولم تقدّم أيّ تفسير لدفع الفوائد لكبار المودعين وكبار المقترضين.

• كان سلامة يُعتبر مهندس السياسات المالية في مرحلة تعافي الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية (1975-1990). لكن على وقع الانهيار الاقتصادي غير المسبوق منذ 2019، حمّل كثر أركان الطبقة الحاكمة، بينهم سلامة، مسؤولية الفشل في إدارة أزمات البلاد المتلاحقة. وانتقدوا بشكل حادّ السياسات النقدية التي اعتمدها سلامة، باعتبار أنها راكمت الديون.

• تسببت الهندسة المالية للبنك في استنزاف الأرصدة الدولارية من البنوك المحلية بأسعار فائدة مرتفعة اعتبارا من عام 2015 للمساعدة في تمويل الدولة المثقلة بالديون، وفق رويترز.

تحويلات غير شرعية

يتحدث التقرير عن عدم شرعية التحويلات إلى شركة "فوري أسوشييتس" بما لا يقل عن 111 مليون دولار من أصل 333 مليون دولار. ويذكر أن التحقيقات الأوروبية تركّز أيضا على العلاقة بين مصرف لبنان والشركة المسجّلة في الجزر العذراء والمستفيد الاقتصادي منها شقيق الحاكم السابق رجا سلامة. ويعتقد أنه جرى عبرها "اختلاس أموال عامة بقيمة أكثر من 330 مليون دولار" بين 2002 و2015.

"الذهب غير مضمون"

من المفاجآت التي فجرها تقرير التحقيق الجنائي أيضا أنه لا يوجد تأكيد لاحتياطيات الذهب، ولم يتم حذف الأوراق النقدية المستعملة من حسابات مصرف لبنان رغم إتلافها.

واستخدم مصرف لبنان سندات الملكية وطباعة النقود، مما أدى إلى زيادة الإنفاق الكلي للدولة، بما في ذلك الإنفاق العام، وخلق مشكلة تضخم أثرت على قدرته على استقرار سعر الصرف.

السرية المصرفية

يذكر تقرير ألفاريز آند مارسال أن مصرف لبنان رفض تسليم مستندات معينة وأزال معلومات مهمة بحجة احترام قانون السرية المصرفية. وكان القانون علق، حسب التقرير، من قبل البرلمان اللبناني للسماح للشركة بتنفيذ التقرير.

وأضاف التدقيق "يبدو أن هذا استمرار لمخطط العمولات الذي تحقق فيه سلطات الادعاء اللبنانية والدولية". وقال إنه لم يعثر على أي سجل لخدمة قُدمت مقابل عمولات وإنه لا يمكن تحديد المستفيد النهائي بشكل مؤكد لأن مصرف لبنان حذف التفاصيل مستشهدا بقانون السرية المصرفية. وذكر سلامة أن تلك العمولات تمت بطريقة "لا تكلف مصرف لبنان شيئا".

قال إن كشوف حسابه الشخصي في مصرف لبنان قُدمت لشركة المراجعة وإنه "لا توجد أموال مملوكة لمصرف لبنان" انتهى بها المطاف في حسابه.

عقوبات وعثرات

• الخميس، فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا عقوبات على رياض سلامة ومقربين منه بتهمة الإثراء الذاتي غير المشروع "من خلال تحويل مئات الملايين من الدولارات عبر شركات وهمية لاستثمارها في قطاع العقارات الأوروبي".

• يُعد التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان خطوة أساسية كونه أحد الشروط التي حددها المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي لمساعدة لبنان على الخروج من دوامة الانهيار الاقتصادي المستمر في البلاد.

• انتهت الشهر الماضي ولاية سلامة، 73 عاما، الذي ترأس البنك المركزي لثلاثة عقود، من دون تعيين خلف له بسبب انقسامات بين القوى السياسية في البلاد.

• منذ عامين، يُشكّل سلامة محور تحقيقات أوروبية تشتبه بأنه راكم أصولا عقارية ومصرفية بشكل غير قانوني، وأساء استخدام أموال عامة. وبناء عليه، أصدرت قاضية فرنسية في باريس ومدعية عامة في ميونيخ مذكرتي توقيف في حق سلامة عُمما عبر الانتربول.

• كما بدأ القضاء اللبناني قبل عامين تحقيقاً محليا. ورفض مصرف لبنان تزويد لجنة التحقيق بكافة المستندات المطلوبة بحجة السرية المصرفية، استأنفت شركة "ألفاريز ومارسال" عملها في أكتوبر 2021.