فرنسا تبحث عن أصدقاء جدد في جنوب آسيا؟

عام 1990 سجل آخر زيارة لرئيس فرنسي إلى دكا هو فرنسوا ميتران، وبعد تسع سنوات كاملة زارت رئيسة الوزراء الشيخة حسينة باريس في عام 1999. بنغلاديش في ذلك الوقت لم تكن بالبلد المهم لفرنسا، فكان حجم التجارة بينهما نحو 225 مليون دولار في تسعينات القرن الماضي وهو مبلغ ضئيل جداً لبلد يزيد تعداد سكانه عن 170 مليون نسمة.

لكن اليوم، وصل حجم التبادل التجاري بين دكا وباريس لنحو 5,2 مليار دولار وأصبحت فرنسا خامس أكبر مستورد للبضائع البنغالية كالملابس والأقمشة والمنتجات الزراعية.

مع تزايد خروج فرنسا من القارة الأفريقية، اتجهت أنظار قصر الإليزيه لمناطق نفوذ جديدة في العالم تحول دون عزلة فرنسا في الجنوب العالمي.

بدأ الاهتمام الفرنسي يتزايد تجاه بنغلاديش من عام 2020، عندما أرسل ماكرون وزيرة دفاعه فلورانس بارلي لتحاول إقناع بنغلاديش شراء طائرات داسو رافال "عاصفة الرياح" الفرنسية القتالية في وقت كانت بنغلاديش تنوي شراء طائرات من طراز يوروفايتر تايفون. وفي العام التالي طلب سلاح الجو البنغالي من الحكومة في دكا تخصيص 3 مليار دولار لطائرات قتالية غربية الصنع.

وفي عام 2021، أرسل ماكرون دعوة للشيخة حسينة لزيارة باريس لدفع العلاقات الثنائية بين البلدين للأمام، وسط تزايد وجود الشركات الفرنسية في بنغلاديش في قطاعات الهندسة والطاقة وإدارة المياه والمجال الجوي.

زيارة ماكرون الأخيرة يرى مراقبون أن أحد أهدافها هو إقناع دكا لشراء طائرات رافايل القتالية الفرنسية بدلاً من الطائرات الأوروبية المنافسة، بالإضافة لدعم صورة الشيخة حسينة شعبياً قبيل الانتخابات العامة المنوي عقدها في شهر يناير القادم.

خلال حفل عشاء للترحيب بماكرون، رئيسة الوزراء البنغالية قالت: "أنا واثقة من أن علاقاتنا الثنائية يمكن أن تنتقل إلى ارتباطات استراتيجية من أجل الانتعاش المشترك للجميع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وخارجها". وأضافت حسينة أن سعي ماكرون "للدفع بنظام الحكم الذاتي الاستراتيجي يتماشى مع سياستنا الخارجية. نجدك نسمة هواء نقية في السياسة الدولية".

ورد عليها ماكرون قائلاً بأن "بنغلاديش تستعيد تدريجياً مكانتها على المسرح العالمي" مثنياً على "النجاح الهائل" للدولة الواقعة في جنوب آسيا.

إعلان تأسيس علاقة استراتيجية قد يعده ماكرون انتصاراً دبلوماسياً ودليلاً على أن فرنسا ما زالت حية ومؤثرة في الجنوب العالمي.

وأعلن ماكرون خلال زيارته لدكا أن بنغلاديش تعهدت بشراء عشر طائرات من طراز إيرباص للاستخدام المدني.

بنغلاديش تعتبر من أكثر الدول تضرراً بسبب التغير المناخي من حيث زيادة حدة الأعاصير والفيضانات وموجات الجفاف وقلة الإنتاج الزراعي وضعف البنية التحتية لمواجهة ظروف الطقس المتطرف وارتفاع الكثافة السكنية. هذا كان أحد محاور زيارة ماكرون الرئيسية.

فرنسا عملت على تسويق الزيارة كتأكيد بالتزام باريس بمساعدات التنمية والتعاون الدولي في مكافحة الفيضانات التي تضرب بنغلاديش، حيث قالت السفارة الفرنسية في دكا إن المناخ هو محور التركيز الرئيسي لتعاون فرنسا مع بنغلاديش، مضيفة أن زيارة ماكرون "ستجلب ديناميكية جديدة لهذا الالتزام".

هذا يمثل فرصة للشركات الفرنسية العاملة في مجالات السدود والبنية التحتية والطاقة والهندسة، ويشكل فرصة أيضاً لحملة الشيخة حسينة الانتخابية في انتخابات شهر يناير القادم.

ماكرون يتبنى حالياً سياسة إعادة الصين لمنطقة الهندي-الهادئ التي تضم دول جنوب وجنوب شرق آسيا قبل أن تنجح روسيا في التوسع فيها، حيث قام في شهر يوليو بزيارة كاليدونيا الجديدة وفانواتو وبابوا غينيا الجديدة وسريلانكا. وتقول الرئاسة الفرنسية إن ما فعله ماكرون خلال الأشهر الست الماضية تجاه منطقة جنوب شرق آسيا أكثر مما فعله أسلافه خلال عشرة سنوات.

خطاب ماكرون لهذه الدول هو أنها أنهكتها الإمبريالية الأميركية وبرامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من جهة، وأن الصين وروسيا يشكلان أيضاً خطراً على تلك الدول من جهة أخرى. لذلك، يحاول تقديم فرنسا كصديق وشريك اقتصادي وتنموي يوفر مسار بديل في المنطقة الآسيوية.

قبل عامين، شهدت العلاقات بين بنغلاديش وفرنسا أزمة كبيرة على المستوى الشعبي، عندما خرجت مظاهرة كبرى في دكا ضمت نحو أربعين ألف متظاهر للاحتجاج على دفاع ماكرون عن الرسومات المسيئة للنبي محمد وحق السخرية من الأديان. وحمل المتظاهرون صور استهزاء بماكرون بينما انتشرت دعوات لمقاطعة البضائع الفرنسية في بنغلاديش ودول إسلامية أخرى.

لذلك، زيارة ماكرون هذا الأسبوع تحاول أيضاً كسب القلوب والعقول في المنطقة عبر التعهد بدعم بنغلاديش ومساعدتها في مواجهة أزماتها المختلفة وخاصة الفيضانات والتغير المناخي، كما والإشادة بسرعة نمو اقتصاد البلاد ومواهب أبنائه.

المستعمرات الفرنسية السابقة في القارة السمراء آخذة في الثورة على باريس وسط انقلابات عسكرية أطاحت بحكومات صديقة لفرنسا، اثنتان منهما خلال شهر واحد هما الغابون والنيجر هذا عوضاً عن مالي وبوركينا فاسو. ففي دول الساحل، تهتف آلاف الجماهير بشعارات مناهضة لفرنسا ومنددة بسياساتها الاستعمارية المستمرة ومطالبة بطرد الجنود الفرنسيين من بلادهم. بينما تخشى باريس من أن التشاد والسنغال هما التالي ما سيشكل ضربة قاسمة الظهر لفرنسا التي تعتمد على تلك الدول في استيراد المواد الخام، كاليورانيوم من النيجر الضروري لتشغيل محطاتها النووية.

في الوقت نفسه، تتوسع روسيا في تلك الدول الأفريقية عبر مجموعة فاغنر لتملأ الفراغ الذي يتركه خروج فرنسا، وهو ما يزيد مخاوفها من تنامي نفوذ الكرملين في مناطق جيوسياسية حساسة.