سياسة
وُلدت الطفلة نايا خلال الحرب الدائرة حاليا في قطاع غزة بعملية قيصرية في الساعة الواحدة ظهر يوم السبت الموافق 11 نوفمبر في جنوب القطاع.
احتضنت سماح قشطة، الأم العشرينية مولودتها الجديدة وتفحصت وجهها الصغير، ثم ما لبثت أن أجهشت بالبكاء لأنها شعرت بالخزي جراء عجزها عن توفير احتياجات الطفلة.
قبل تلك اللحظات بأيام، كانت سماح تقف في قسم الولادة بمستشفى ناصر في خانيونس حيث تعمل قابلة. هناك تمتزج صراخات آلام المخاض مع صراخ وداع الأحباء والنحيب، حيث يبتعد قسم الولادة أمتار قليلة فقط عن المشرحة.
فكيف ينصهر الموت والحياة في القطاع المحاصر؟
على الرغم من أنها تعمل قابلة، تعاني سماح من النقص الحاد في احتياجاتها مثل معظم الأمهات الأخريات في غزة، وجاءت إلى المستشفى ومعها عدد قليل من الحفاضات وعلبة من حليب الأطفال وزجاجة من المياه لإعداد الحليب.
وبعد وقت قصير من ولادتها، كانت سماح ترقد على سرير بجانب النافذة مع طفلتها نايا عندما تعرض منزل مجاور للقصف في غارة جوية، علمت الأم فيما بعد من ممرضات المستشفى أن هناك أشخاصا ماتوا في الهجوم.
ويشعر السكان في أنحاء القطاع بالذهول من الأحداث التي تشهدها مدينة غزة، وهي المدينة الرئيسية في القطاع. هناك تحاصر الدبابات الإسرائيلية مستشفى الشفاء، وذكر الأطباء في المستشفى أن المرضى يموتون وأن الحضانات متوقفة عن العمل.
إلا أن سماح وضعت مولودتها في مستشفى الهلال الإماراتي للولادة في مدينة رفح على الحدود مع مصر، ويقع المستشفى على بعد نحو 30 كيلومترا جنوبي مدينة غزة و20 كيلومترا جنوبي خط الإجلاء الذي أعلنته إسرائيل، ولكن يشعر الناس هناك أيضا بأنهم محاصرون حيث تتعرض مدن مثل رفح للقصف الجوي.
قبل أن تضع طفلتها، عملت سماح في مستشفى ناصر بمدينة خانيونس، التي لا تتمتع بظروف أفضل من رفح على أي حال، حيث يُسمع دوي انفجارات ليلا في المدينة بعضها بعيد والبعض الآخر قريب، وفي النهار، يُسمع صوت طنين مستمر صادر عن محركات الطائرات المسيرة الإسرائيلية التي تحلق عاليا في كل مكان.
كان من المقرر أن تخضع سماح لعملية قيصرية في أواخر أكتوبر لكنها أخرت الولادة على أمل التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
بسبب نقص الأدوية، كان المسكن الوحيد الذي تلقته عندما وضعت مولودها في 11 نوفمبر هو مخدر للجزء السفلي من الجسم، وبعد يوم واحد، أنزلتها سيارة إسعاف بالقرب من منزلها قدر الإمكان لأن الشوارع كانت مغلقة بسبب الأضرار الناجمة عن الغارات الجوية، وقالت: "اتمشيت حوالي نصف ساعة وأنا عاملة قيصري ومعايا بيبي".
عادت الأم إلى أطفالها الآخرين نورسين ومحمد وموسى وكانت الأسرة في استقبال المولودة الجديدة نايا.
قبل الولادة، تمكنت سماح وزوجها من الحصول على عبوة واحدة فقط من الحفاضات وعلبة واحدة من حليب الأطفال، وقالت إنها لا تعرف ما ستفعله الأسرة بعد ذلك لرعاية نايا.
وهناك صعوبة بالغة في الحصول على الضروريات، ويضطر زوجها إلى الوقوف في الطابور لساعات على أمل الحصول على سلع أساسية مثل الخبز، وتعيش الأسرة بشكل أساسي على الشاي والبسكويت الذي يحتوي على التمر، والذي توفره لهم وكالة تابعة للأمم المتحدة، وقالت: "لا يوجد غاز لتسخين المياه... بنولع الخشب وبنسخن ونغلي المياه علشان حليب البيبي".
وعندما تتعافى من ولادة نايا، تعتزم سماح العودة إلى العمل في شهر يناير في جناح الولادة بمستشفى ناصر، وقالت إنه إذا انتهت هذه الحرب، فسيكون هذا القسم بمثابة نافذة للأمل.
وقالت إنها تسمع دوي القصف وصفارات الإنذار وصراخ أهالي الشهداء وصراخ النساء أثناء المخاض، وأضافت أنها في كل مرة تساعد فيها امرأة على الولادة، وفي كل مرة تحمل بين يديها طفلا حديث الولادة، تشكر الله حيث تشعر بالسعادة لأن الله وهبهم حياة جديدة وطفلا جديدا.
ويستمر العمل في سوق الخضار في خانيونس لكن الأسعار زادت للضعف، وعند المخابز يصطف المئات في طوابير من الفجر حتى غروب الشمس، وينادي التجار على مجموعة من السلع لكن بأسعار باهظة بدءا من علب التونة إلى فرش الشعر والثياب والمنظفات، ويتسبب ارتفاع الأسعار في وقوع مشاحنات باستمرار.
وتنتشر أكوام من القمامة وأسراب من الذباب في كل مكان، وتسببت ندرة المياه ونقص مرافق الصرف الصحي في تفشي أمراض جلدية، وظل كثيرون دون استحمام لأسابيع وكانوا يعانون من طفح جلدي واضح.
ويملك عدد قليل من السكان المحظوظين ألواحا شمسية فوق منازلهم تساعدهم على سحب المياه الجوفية من المضخات وشحن هواتفهم المحمولة، ويضطر كثيرون آخرون إلى الوقوف في طوابير منذ الصباح الباكر لملء حاويات صغيرة بالمياه من الآبار القريبة.
وعلى الرغم من وقوع خان يونس إلى الجنوب من "خط الإجلاء" الذي حددته إسرائيل، فإنها لم تنج من هجمات الطائرات والصواريخ الإسرائيلية يوميا، حيث دكت الغارات بنايات بأكملها ويقول مسؤولو الصحة المحليون إن 1300 شخص إجمالا قُتلوا في منطقة خان يونس منذ السابع من أكتوبر.
يدير سعيد الشوربجي، مشرحة مستشفى ناصر ويعتمد على متطوعين يعملون بواقع ثمانية في كل نوبة عمل.
وتبعد المشرحة 30 مترا فقط عن قسم الولادة الذي اعتادت سماح أن تعمل فيه، وتدير منظمة خيرية المشرحة وتمولها تبرعات محلية أخرى وتقدم المشرحة خدماتها بالمجان.
ويحدد الشوربجي وطاقمه هوية القتلى ويكفنونهم ويرسلونهم إلى المسجد لتُصلى عليهم صلاة الجنازة ثم إلى قبورهم، ويُسمح لأفراد الأسرة الأقربين بدخول المشرحة لتلاوة القرآن وترديد الأدعية وتقبيل جثث أحبائهم. ويقف الأقارب الآخرون خلف حواجز.
ويتجمع الناس أحيانا لأداء صلاة الجنازة قبل أن يحملوا القتلى إلى مثواهم الأخير بدلا من إجراء الشعائر مثل المعتاد في أحد المساجد، وغالبا ما يهب المتطوعون لأداء هذه المهمة حينما لا يكون ثمة أفراد من الأسرة باقين على قيد الحياة أو حينما تفوق أعداد القتلى والجرحى سعة المساجد.
ويتولى الشوربجي كثير من المهام بنفسه، إذ إن حجم العمل كثير إلى حد يدفع زميله أحيانا إلى مساعدته في شرب الماء في ظل انشغال كلتا يديه الملطختين بالدماء بالتعامل مع الجثث.
وصُممت ثلاجات حفظ الموتى في المشرحة لاستيعاب 50 جثة، لكن في بعض الأيام تعج بمثلي ذلك الرقم وتُوضع الجثث على أرضية المستشفى.
وخارج الثلاجات توجد مغسلة لتغسيل الجثث، ولا يتمثل التحدي في التعامل مع عدد الجثث التي تصل فحسب، فالمشرحة تعاني من نقص الوقود في غزة وتطلق نداءات من أجل المساعدة في حمل القتلى إلى المسجد وإلى المقابر.
إيجاد مكان في المدافن أمر عسير وخطير، فقد قُصف المدفن الرئيسي في البلدة كثيرا إلى حد دفع كثيرين إلى حفر قبور بأنفسهم في المدينة وفي مخيم اللاجئين.
ويقول الشوربجي إن الحرب تثير مشاعر جارفة وتوترا شديدا يعصفان بالمبنى مع دخول المكلومين، ولا يستطيع بعضهم تقبل حقيقة أن القصف الإسرائيلي "شوّه" أحد الأحبة.
وتابع الشوربجي: "في أثناء حديثنا، داخل المشرحة لدينا أب تُوفيّ وابنه الذي يبلغ من العمر عامين بين ذراعيه وما يزال يحتضنه.. لم نتمكن من فصل الوالد عن الابن، سنتركهما على تلك الحال وسندفنهما على تلك الحال أيضا".
وأضاف أن الجميع في غزة "دفع ثمن هذه الحرب" بعد أن فقدوا أسرهم أو أقاربهم.
ويحصي مدير المشرحة عدد القتلى بحلول السادسة مساء ويرسله إلى وزارة العدل في غزة والتي تشرف على المشرحة، ثم يعود إلى منزله ليشترك مع أسرته في البحث عن المياه والكهرباء والخبز.
ولا يتحدث الشوربجي عن عمله عندما يعود إلى منزله، حيث يقول إن المشاهد والذكريات والتفاصيل اليومية مروعة، وأضاف أنه عندما يسأله أهله عن يومه، يكتفي بالرد قائلا إنه "استقبل عددا من الشهداء".
في مستشفى ناصر بخانيونس، قال وليد أبو حطب مدير قسم الولادة لرويترز إن 50 ألف امرأة حبلى في غزة يواجهن أزمات صحية، وهو رقم أكدته وكالات الأمم المتحدة، وأضاف أن حالات الإجهاض وولادة أجنة ميتة ترتفع بنسبة 20 % في خانيونس وأن جميع الحوامل معرضات للخطر بسبب انهيار الرعاية الصحية الأولية واكتظاظ المستشفيات وأن الجرب بدأ ينتشر في مستشفى ناصر، كما تمثل منظومة الصرف الصحي مصدر خطر كبير.
ويقول الأطباء إن المراحيض مكتظة في المستشفى حيث يستخدمها ما يصل إلى 5000 شخص، وشاهدت رويترز طوابير كبيرة وأرضيات مبللة وموحلة في ظل نقص الصابون والمياه، وقال مسعفون لرويترز إن النساء الحوامل معرضات لخطر الإصابة بالتهابات المسالك البولية وغيرها من الأمراض التي قد تؤدي إلى وفاة الأطفال.
وقال أبو حطب إن غرف العمليات المخصصة للعمليات القيصرية تستخدم لعلاج جرحى القصف مضيفا أنهم يواجهون أوقاتا عصيبة.
وداخل قسم الولادة كانت الشابة إيمان أبو مطلق قد وضعت توأما، وقال والدهما أيمن أبو عودة إنه سيسميهما حمزة وعدي على اسم اثنين من أبناء أخيه قتلا في غارة جوية على منزلهما أثناء الحرب، واضطر أبو مطلق وأطفال الزوجين الثمانية بعد هذه الضربة إلى العيش في خيمة داخل إحدى المدارس بدون بطانيات لمدة سبعة أيام.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة