وسط الحرب.. هل تشعل المحكمة العليا نيرانا داخلية بإسرائيل؟

لا يوجد في إسرائيل دستور رسمي، فهي حتى اللحظة لا تقوم بتحديد حدود جغرافية رسمية للدولة -رغبةً في ابتلاع الضفة الغربية دون إعطاء الجنسية الإسرائيلية لسكانها- لذلك لا توجد مرجعية دستورية لضبط ومراجعة قرارات الحكومة والكنيست.

عوضاً عن الدستور، توجد مبادئ قانونية عامة أو "قوانين أساسية" تحتكم إليها المحكمة العليا بالإضافة لمبادئ حقوق الإنسان في تقييم قرارات وقوانين الحكومة والكنيست، وإبطال بعضها لافتقارها للعقلانية والتناسب مع المبادئ والقوانين الأساسية بما يشبه حق الفيتو.

الإسرائيليون يطلقون على بروز استخدام مبدأ العقلانية من قبل المحكمة العليا اسم "الثورة الدستورية الأولى"، إذ استخدم قاضي المحكمة العليا أهارون باراك هذا المبدأ في عام 1995 في حكم قضائي، وصرح حينها بأن المحكمة العليا يمكنها إبطال قوانين الكنيست التي تتعارض مع القوانين الأساسية للدولة. باراك قال -آنذاك- بأن تلك القوانين الأساسية تتمتع بمكانة "دستورية فوق القانون" تبطل كل ما يتعارض معها من قرارات أو قوانين للحكومة والكنيست.

هذا الأمر دفع تحالف نتنياهو للقيام بحيلة ذكية لتقويض سلطة المحكمة العليا حينما قاموا بتمرير قانون أساسي جديد في شهر يوليو الماضي يبطل قدرة المحكمة على استخدام حق الفيتو ضد القوانين غير الأساسية تحت بند العقلانية. بهذه الطريقة، سعى نتنياهو وشركاؤه لوضع المحكمة في مأزق دستوري، لأن القانون نفسه يعتبر غير عقلاني، لكنه في الوقت ذاته قانون أساسي لا يمكن إبطاله.

لذلك، تقول الصحافة الإسرائيلية، إن مسودة قرار المحكمة العليا المسربة إذا تم إقرارها بصفة رسمية ستكون بمثابة ثورة دستورية ثانية، وستكون "الأكثر دراماتيكية" في تاريخ إسرائيل على الإطلاق، بحسب معاريف، لأن ذلك يعني أن المحكمة سيكون بمقدورها إبطال القوانين الأساسية الدستورية أيضاً.

ويشير أنصار مبدأ العقلانية إلى أن النظام الانتخابي الإسرائيلي يعطي نواب الكنيست السلطة لتشكيل الحكومة من قبل التحالف الحاكم، هذا يعني أن السلطة التشريعية والتنفيذية في يد الجهة نفسها، فلا تستطيع المعارضة إسقاط أو عزل الحكومة لافتقارها للأغلبية البرلمانية. لذلك المحافظة على نفوذ واستقلال السلطة القضائية مهم لمنع طغيان الحكومة.

المحكمة العليا لجأت أيضاً إلى حيلة ذكية. فبدلاً من القول بأن القانون الأساسي لإلغاء مبدأ العقلانية غير عقلاني في حد ذاته وإبطال قانون أساسي للمرة الأولى في تاريخ البلاد والدخول في نفق مظلم من الصراعات الدستورية، قالت مسودة قرار المحكمة إن القانون ببساطة مصيري ومهم للغاية، لانحرافه الكبير عن باقي القوانين الأساسية، وأن من غير اللائق تمريره بأغلبية ضئيلة دون إجماع واسع، لذا يجب إعادة طرحه في الكنيست.

قرار المحكمة المسرب جاء فيه أن "القانون الأساسي (لإلغاء مبدأ العقلانية) يشكل انحرافاً كبيراً عن 'الدستور قيد الإعداد' وبالتالي كان لا بد من قبوله بإجماع واسع النطاق. وليس بأغلبية ائتلافية ضيقة".

المفارقة هي أن قرار المحكمة المسرب جاء أيضاً بأغلبية ضئيلة. فثمانية قضاة صوتوا مع القرار في حين صوت سبعة ضده. أحد أبرز القضاة المصوتين ضد القرار هو نوعام سولبرغ، الذي من المتوقع أن يكون رئيسا للمحكمة العليا في السنوات المقبلة وفق نظام الأقدمية.

سولبرغ مستوطن غير شرعي في الضفة الغربية، وقال في رفضه لقرار المحكمة بأن معظم القضاة ورؤساء المحكمة العليا يؤيدون موقفه.

أما أحد أبرز الأصوات المؤيدة لقرار المحكمة المسرب، والذي يعتبر "رمانة الميزان" الحاسم في مرور القرار فهو القاضي خالد كبوب المسلم المنحدر من مدينة يافا، الذي عُين قاضياً في المحكمة العليا في عام 2022 كأول قاضٍ مسلم في تاريخ إسرائيل. قبول ترشيح كبوب جاء في وقت كانت قد تنامت فيه اتهامات كبار المنظمات الحقوقية العالمية ضد إسرائيل بارتكاب جريمة الفصل العنصري، واستخدمت إسرائيل قبول القاضي المسلم في حملاتها الدعائية لتبييض صورتها عالمياً.

أحد عرّابي التعديلات القضائية الإسرائيلية المثيرة للجدل، وزير العدل ياريف ليفين، سارع لمهاجمة قرار المحكمة المسرب قائلاً: "بينما يقاتل جنودنا جنبًا إلى جنب على مختلف الجبهات، وبينما تعاني الأمة بأكملها من فقدان العديد من الأرواح، يجب ألا يتم تمزيق شعب إسرائيل بسبب النزاعات. مواطنو إسرائيل يتوقعون من المحكمة العليا عدم إصدار حكم مثير للجدل في أثناء الحرب". وأضاف ليفين، أن على المحكمة العليا التحلي بالمسؤولية "وألا تخلق صدعًا عميقًا في الأمة، في وقت نسعى فيه جميعاً إلى الوحدة".

كذلك هاجم عراب التعديلات الآخر نائب الكنيست سمحا روتمان، قرار المحكمة ووصفه بغير المسؤول، داعياً قضاة المحكمة إلى "العودة إلى رشدهم والانسجام مع روح الوحدة والمسؤولية التي تنبض في جميع مجالات الجمهور، وتجنب خلق خلاف غير ضروري بين الناس". مستخدماً ذريعة هجوم السابع من أكتوبر، توعد ورتمان بأن يستمر في إقرار "التغييرات المطلوبة والضرورية في جميع الأنظمة الحكومية والنظام القضائي" بعد الحرب.

انضم أيضاً الوزيران المتطرفان إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش، إذ قالا إن المحكمة لا تمتلك صلاحية إبطال ذلك القانون الأساسي وهاجما قضاتها.

لكل معسكر سياسي في التحالف الإسرائيلي الحاكم أهدافه الخاصة في السعي وراء إلغاء مبدأ العقلانية. فحزب شاس يريد تمرير هذا القانون ليعود آريه درعي نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية والصحة بعد إبطال المحكمة العليا قرار تعيينه في الحكومة الحالية، بالإضافة لتمكين اتخاذ قرارات من شأنها محاباة اليهود شديدي التدين "الحريديم". وأما حزب الليكود، فلا يخفي رغبته في تمرير ذلك القانون ليتمكنوا من طرد النائبة العامة غالي بهاراف-ميارا، التي تقود التحقيقات في تهم الفساد الموجهة لنتنياهو، بالإضافة لقيامها بالاعتراض على بعض القرارات الحكومية.

في نظر اليمين المتطرف، التضييق على الفلسطينيين وابتلاع الأراضي المحتلة هما أحد أبرز مكتسبات التعديلات القضائية. فوزير الأمن الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير ورئيس حزب القوة اليهودية اليميني يريد إبطال مبدأ العقلانية، ليقوم بتشريع عقوبة الإعدام للفلسطينيين وتسريع تسليح الإسرائيليين وممارسة سلطاته الوزارية بشكل أكبر على أجهزة الشرطة والأمن. فقد يتمكن حينها من طرد وتعيين قيادات الأجهزة الأمنية كما يحلو له.

ويريد معسكر الصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموتريش إزالة مبدأ العقلانية كعقبة في وجه بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المملوكة بشكل خاص وتشريع البؤر الاستيطانية بوتيرة غير مسبوقة على الرغم من أن تلك البؤر تعد غير شرعية تحت القانون الإسرائيلي.

وفي شهر مارس الماضي هتفت النائبة عن حزب الليكود، طالي غوتيلب، في جماهير مؤيدي التحالف الحاكم، قائلةً بأن إضعاف المحكمة العليا سيسمح بهدم بيوت الفلسطينيين بشكل أكبر واستعمالهم كدروع بشرية للجيش وسحب الجنسية عن فلسطينيي الداخل وطردهم من قراهم.

تاريخياً، لطالما وقفت المحكمة الإسرائيلية العليا بشكل شبه دائم إلى صف الحكومة والمستوطنين الإسرائيليين في وجه الفلسطينيين فيما يتعلق بالاحتلال. لكن في بعض حالات نادرة، تمكن الفلسطينيون من انتزاع بعض الانتصارات المحدودة عبر تلك المحكمة، كإبطال قيام الحكومة الإسرائيلية بمنع سفر مريضات السرطان من قطاع غزة المحاصر لتلقي العلاج في الضفة الغربية والقدس.