سياسة
.
بعد قصف مبنى سكني أو مستشفى أو قتل صحافي، غالبا ما تلجأ إسرائيل إلى جملة شهيرة تهرب من خلالها من المساءلة والأسئلة الصعبة: "سنحقق في الأمر".
السلاح السحري للجيش والحكومة الإسرائيلية هو جملة سنحقق في الأمر، بحسب منظمة بتسليم الحقوقية الإسرائيلية.
تشرح المنظمة أن إسرائيل استخدمت هذه الجملة "لتبييض مئات الحالات التي قتلت فيها القوات الإسرائيلية فلسطينيين".
ومؤخرا، طلبت واشنطن من إسرائيل إجابة واضحة عن تفجير المبنى الرئيسي لجامعة الإسراء في غزة (الأربعاء 17 يناير)، وكان رد تل أبيب مشابها لردها في الحوادث السابقة: "سنحقق في الأمر"، حسب ما نقلت القناة ١٢ الإسرائيلية.
فكيف أصبحت تلك العبارة اعترافاً ضمنياً بالذنب؟ وما هي آليات الدعاية الإسرائيلية الأخرى؟ وهل تصل تلك التحقيقات لنتيجة في النهاية؟
قانونيا تتمتع المباني التعليمية مثل المدارس والجامعات بالحماية، ولا يجوز استهدافها إلا في حال التأكد من استخدامها لأغراض عسكرية وقتالية.
لكن مبنى جامعة الإسراء كان في منطقة خاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي لمدة 70 يوماً، قبل زرع 315 قنبلة لتفجيره، والتقاط مشاهد النسف ونشرها على حسابات الجيش الإسرائيلي بمواقع التواصل الاجتماعي.
في المقابل، تقول القناة 12 الإسرائيلية إنه كان ينبغي طلب الموافقة من رئيس الأركان هرتسي هليفي قبل نسف الجامعة، بسبب استخدامها كـ"قاعدة إرهابية"، وفق ما تنص عليه لوائح الجيش، باعتبارها مؤسسة عامة.
وتقول القناة، الأكثر مشاهدة في إسرائيل، إن "السلطات تحقق في انهيار المبنى وعملية الموافقة على التفجير".
هي الآلية الدفاعية الأولى لإسرائيل، استخدمتها سابقا عند مقتل الطفل محمد الدرة، إذ سارعت السلطات الإسرائيلية بالقول إن مسلحين فلسطينيين هم مَن قتلوه وليس جنودها.
وكان آخر مثال على ذلك مرافعتها في محكمة العدل الدولية، إذ قالت إن عددا هائلا من القتلى المدنيين بغزة ربما سقطوا بسبب صواريخ حماس التي تعطلت عند الإطلاق.
وهو ما قالته السلطات الإسرائيلية عند قتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، عندما ادعت أنها "قُتلت بالخطأ" في اشتباكات مع مسلحين في مكان الحادث.
أو الـ"Whataboutism"، وهي حيلة للتهرب من اتهام أو سؤال صعب عبر اتهام السائل بالنفاق والمعايير المزدوجة، لأنه يتجاهل قضايا مماثلة.
مثلاً في عام 2018، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إن الحديث عن احتلال الأراضي الفلسطينية "كلام فارغ"، وأضاف "ماذا عن الكثير من الدول الكبرى التي احتلّت واستبدلت السكان الأصليين ولا أحد يتحدث عنهم؟".
وفي حال تفنيد تلك الادعاءات، تلجأ إسرائيل للقول "سنحقق في الأمر" وهي الجملة الأشهر للتهرب من الإدانة.
في عام 2020، كان الشاب إياد الحلاق 32 عاما، المصاب بالتوحد، يمر من باب الأسباط في القدس مع معلمته، ووضع يده في جيبه لإخراج هاتفه، فصرخت عناصر شرطة حرس الحدود الإسرائيلي فيه، فركض مذعوراً.
رجال الشرطة أطلقوا 7 رصاصات اتجاهه، واستمر الشاب في الركض خائفاً إلى أن اختبأ في غرفة للقمامة.
هنا اقترب منه أحد عناصر الشرطة مجدداً في حين استمرت المعلمة بالصراخ بأنه مصاب بالتوحد، لكن أحد الشرطيين أطلق عليه النار مراراً إلى أن تأكد من موته.
الحادثة أثارت موجة من الانتقادات الحادة والأسئلة الصعبة لإسرائيل، فكان رد السلطات "نأسف لما حدث وسنحقق في الأمر".
مرت سنوات على تلك الحادثة، ولم تتم محاسبة أي من الضالعين فيها، بل على العكس، في عام 2023 قامت الشرطة بترقية الشرطي القاتل، وفي العام نفسه برأته محكمة إسرائيلية من جميع التهم المنسوبة إليه، وقالت إنه ظن أن إياد إرهابي، وتصرف بحسن نية في ذلك الحادث وقام بـ"خطأ صادق".
أما والدة إياد، فصاح بها وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير بأنها "إرهابية".
وفي أبريل 2018، أطلق قناص إسرائيلي رصاصة قاتلة صوب الصحافي الشاب ياسر مرتجى على الرغم من ارتدائه درعا كتب عليها بصورة واضحة "صحافة".
وبعد أسابيع قليلة، قتل قناص آخر المسعفة الشابة رزان النجار على الرغم من ارتدائها معطفها الأبيض المميز بين حشود المتظاهرين في مسيرات حدودية على حدود قطاع غزة مع إسرائيل.
إسرائيل قالت في البداية إن قتل النجار كان خطأً، ثم نشرت مقطعا مجتزأ لها وهي تمسك بقنبلة غاز وتلقي بها بعيداً بعد أن ألقى الجيش الإسرائيلي تلك القنبلة باتجاهها، وقالوا بأنها "لم تكن بريئة".
وفي حالة ياسر مرتجى، قال وزير الدفاع الإسرائيلي -آنذاك- أفيغدور ليبرمان عبارته الشهيرة "لا يوجد أي شخص بريء في غزة".
وأضاف الوزير "لقد رأينا عشرات الحالات لنشطاء حماس الذين كانوا متنكرين في زي مسعفين وصحفيين. كما رأينا صحفياً يقترب من الحدود ويشغل طائرة من دون طيار، ونحن لا نجازف في تلك الحالات".
لكن لسوء حظ ليبرمان فإن مرتجى كان قد حصل على عطاء من أميركا قبل فترة وجيزة من قتله، وهو ما يعني أن الأميركيين أجروا فحصاً أمنياً شاملاً عليه قبل منحه العطاء ولم يجدوا أي شيء ضده.
لذلك، سارع الجيش الإسرائيلي إلى إعلان فتح تحقيق في ملابسات الحادثتين، لكن بعد مرور 6 أعوام، لم تصدر أي نتائج لتلك التحقيقات التي تقول منظمة بتسليم إنها مجرد خدعة لتبييض صورة إسرائيل.
بتسليم تشير إلى أن تحقيقات الجيش الإسرائيلي تنتهي في الغالب بنفس النتيجة وهي التستر على الجريمة وتبييضها.
المنظمة الحقوقية الإسرائيلية تستشهد بثلاث أمثلة بارزة وهي حربي إسرائيل على غزة في الأعوام 2008 و2014 واعتداء الجيش الإسرائيلي على مسيرات العودة وكسر الحصار عامي 2018-2019.
خلال الحربين قتلت إسرائيل ما يزيد عن 3600 فلسطيني، منهم حوالي 846 طفل، ودمرت ما يزيد عن 21500 منزل في القطاع، وخلال المسيرة قتلت نحو 223 متظاهر وأصابت ما يزيد عن 36,000.
الجيش الإسرائيلي فتح ثلاث تحقيقات منفصلة في كل من تلك الأحداث الدموية، انتهت بمعاقبة 6 جنود فقط بالمجمل بحسب بتسليم.
أحد الجنود مثلاً أدين بقتل طفل بعمر 14 عام في مسيرات العودة، فحصل على عقوبة بالخدمة المجتمعية لمدة شهر، وآخر أدين بقتل أم وطفلتها فتم حبسه لـ45 يوم، وآخران أدينا باستخدام طفل كدرع بشري فحصلا على عقوبة بالحبس لثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ، وأخير عوقب بالسجن لسبعة أشهر لسرقة بطاقة مصرفية.
أما عن سباب تكبد العناء لإجراء تلك التحقيقات الصورية، فتقول المنظمة الإسرائيلية إن الجيش يفعل ذلك لمنع تدخل المجتمع الدولي والمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بالتحقيق في تلك الجرائم.
فالمحكمة الجنائية تعمل وفق مبدأ "التكاملية" الذي يعني أنها تستطيع التدخل وإجراء تحقيقات فقط في حال كانت الدولة المتهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية رافضة أو غير قادرة على إجراء تحقيق بنفسها في تلك الاتهامات.
وقد استخدمت بريطانيا نفس الحيلة مؤخراً للتهرب من تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في تهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في العراق وأفغانستان.
المحكمة الجنائية قالت إن هناك أدلة أن مثل تلك الجرائم قد ارتكبت بالفعل، لكنها نأت بنفسها عن مسائلة بريطانيا لإن الحكومة البريطانية أجرت تحقيقاً في الأمر وانتهى بحبس جندي واحد لمدة عام فقط وفقاً لهيومن رايتس ووتش.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة