سياسة
.
النكبة الثانية.. من الأسماء الأكثر شيوعا لوصف الحرب الإسرائيلية الجارية في غزة سواء على ألسنة الفلسطينيين أم القادة الإسرائيليين أنفسهم.
لا تنبع تلك المقارنة فقط بسبب التهجير القسري الجماعي لما يزيد عن 700 ألف شخص آنذاك وما يزيد عن 1.8 مليون اليوم، بل هناك تشابه حرفي بين النكبتين في الأسلحة والاستراتيجيات الإسرائيلية المتبعة ميدانيا.
الحديث هنا يشمل تكتيكات عنف مباشر مثل المذابح والقصف العشوائي والقتل الجماعي واعتقال وتعذيب أعداد كبيرة من السكان، ويشمل أيضا استراتيجيات أخرى تشهدها غزة، مثل استخدام التجويع كسلاح وتدمير البيوت ونهبها لمنع عودة اللاجئين وقتل كل من يحاول العودة.
فما هي أبرز أوجه الشبه تلك؟ وهل تنجح إسرائيل في التهرب من العدالة كما فعلت في عام 1948؟ وكيف يشكل الإنكار أحد أهم تلك الأسلحة؟
في غزة، عام 2024، ارتكبت إسرائيل العديد من المذابح خلال الحرب راح ضحيتها الآلاف، مثل مذبحة الطحين ومذبحة جباليا ومذبحتي مستشفى الشفاء وناصر، والتي تردد صداها مع مذابح النكبة الشهيرة كمذبحة دير ياسين والطنطورة وبيت دراس والرملة واللد.
الجيش الإسرائيلي استخدم قوة نارية كثيفة للغاية ضد غزة لدرجة أن الرئيس الأميركي المناصر لإسرائيل، جو بايدن، وصف ذلك القصف بالعشوائي.
لجأت الميلشيات اليهودية قبيل تأسيس إسرائيل وخلال النكبة لارتكاب جرائم قتل جماعي وعشوائي متعمد لنشر الرعب وسط الفلسطينيين وإجبارهم على النزوح.
ففي عام 1948، قام عناصر الميليشيات وجنود الجيش الإسرائيلي المؤسس حديثاً بإلقاء قنابل على أماكن مزدحمة أو تفجير ألغام في سيارات وباصات وأسواق عامة ومبان، وقصف المدن بقذائف الهاون بشكل عشوائي وارتكاب عمليات إعدام ميداني للعشرات والمئات من المدنيين.
بن زيون كوهين الذي قاد مليشيات الإرغون في مذبحة دير ياسين قال إن لتلك المجازر الفضل في تهجير الفلسطينيين وإنها كانت ضرورية لنشر الذعر والخوف وسط سكان القرى المجاورة وإجبارهم على النزوح.
هذه الأحداث لها صداها اليوم في غزة، مثلما يحدث في تهجير السكان قسرياً من الشمال للجنوب ومن رفح للمواصي عبر استخدام إسرائيل للقصف المكثف والاعتقال والقتل الجماعي.
خلال حربها على غزة، تعمدت إسرائيل استخدام التجويع كسلاح حرب بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، من خلال منع دخول الماء والغذاء والدواء وقصف المخابز والمصانع والمحال التجارية وإطلاق النار على الجماهير المصطفة في انتظار المساعدات.
هذا بالإضافة لاغتيال ممنهج للشخصيات البارزة في لجنة الطوارئ الحكومية التي علمت على تأمين قوافل المساعدات ومنع الفوضى والسرقة وقتل ما يزيد عن 170 عامل إغاثي من طواقم الأمم المتحدة وموظفي منظمات إغاثية دولية ومحلية أبرزها مطبخ الغذاء العالمي.
الأمر لا يختلف كثيراً عن نكبة عام 1948، فعلى سبيل المثال في مدينة يافا التي كان يقطنها نحو 60 ألف فلسطيني، قامت الميليشيات اليهودية بفرض حصار مطبق على سكانها منعوا فيه دخول الطعام والشراب لتجويع أهل المدينة وإجبارهم على الرحيل.
كما قاموا بقصف يافا بقذائف الهاون ونصبوا عددا من القناصة الذين قاموا بعمليات قتل ضد السكان. وكررت إسرائيل تلك الاستراتيجية في حيفا والقدس الغربية وصفد وبيسان وطبريا.
لم يبق من سكان حيفا نتيجة الهجمات وسياسة التجويع والترهيب تلك سوى 3500 شخص و4000 في يافا، وبقي في الرملة واللد نحو 2000 فلسطيني من أصل 35 ألفا.
لكن إسرائيل استمرت في ملاحقة من نجحوا في البقاء وقامت بتكديسهم في "غيتوهات" ضيقة أو "معسكرات اعتقال" تحت الحر الشديد، حُرموا من الخروج منها أو التنقل بينها إلا بإذن، ومنعوا من العيش خارجها، بحسب صحيفة هآرتس.
وأحاطت إسرائيل تلك الغيتوهات بسياج وأسلاك شائكة كالأقفاص واستمرت في نقل السكان العرب إليها لإخلاء باقي المدينة للمهاجرين اليهود.
مثلاً، عندما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون مدينة يافا بعد الاستيلاء عليها، أمر بتجميع كل سكانها المسيحيين في شارع وادي نسناس والمسلمين في شارع وادي سالب وإحاطة تلك الأحياء بالسياج وإغلاقها.
ولم تقم إسرائيل بتأهيل أو تهيئة البيوت في تلك الأحياء للسكان الفلسطينيين المنقولين إليها، على الرغم من تعرض بعض البيوت تلك للتدمير أو عدم وصول المياه إليها.
كذلك في مدينة اللد، كدس الجيش الإسرائيلي جميع الفلسطينيين في حي واحد أحاطه بالسياج وفرض عليهم حظر التجول وأجبر السكان الكبار والنساء والأطفال على الوقوف لساعات طويلة تحت أشعة الشمس دون طعام أو ماء.
يحيي الفلسطينيون ذكرى نكبة ٤٨ في الـ15 من مايو، وهو اليوم الذي أُعلن فيه عن تأسيس إسرائيل. لكن عمليات التطهير العرقي والمجازر والتهجير بدأت قبل يوم النكبة بشهور طويلة واستمرت بعد انتهاء حرب 1948 لأعوام.
على سبيل المثال، مدينة المجدل المجاورة لقطاع غزة كان يسكنها نحو 10 آلاف فلسطيني قبل النكبة، بقي منهم نحو الثلث بعد تأسيس إسرائيل بستة أشهر.
في شهر ديسمبر من العام 1948، قام الجيش الإسرائيلي بطرد نحو 1000 من السكان، وأمر الجنرال يغال يعالون بطرد البقية لكنهم رفضوا الرحيل وتشبثوا بالأرض.
الجيش الإسرائيلي اعتقل من تبقى، وعددهم نحو 2500، في حي "غيتو" المحاط بالسياج الشائك، وقاموا باجتياح واقتحام ذلك الحي ليلاً لخلق حالة من الذعر وعرضوا عليهم مبالغ مالية للرحيل، لكنهم رفضوا.
وبعد أكثر من عامين على النكبة، في شهر أكتوبر من العام 1950، أمر بن غوريون بترحيل أهالي المجدل ووضعهم على شاحنات نقلتهم لغزة قسراً.
وبحسب المؤرخ الإسرائيلي البارز بيني موريس، فإن إسرائيل قامت بطرد وترحيل ما بين 30 إلى 40 ألف فلسطيني خلال الأعوام السبع التالية للنكبة (1949-1956).
خلال الهدنة الإنسانية التي شهدتها غزة في شهر نوفمبر الماضي، قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 10 فلسطينيين على الرغم من وقف إطلاق النار بدعوى أنهم حاولوا العودة لمنازلهم في الشمال.
وفي شهر مارس الماضي، وثقت لقطات محاولة شابين العودة للشمال وأيديهما مرفوعة وقيام الجنود بأمر أحدهما بالتقدم نحوهم ومن ثم إعدام الشابين من نقطة صفر ودفنهما تحت الرمال على الشاطئ بالجرافات العسكرية.
سياسة قتل أو إطلاق النار على كل من يحاول العودة للمناطق التي هجروا منها في غزة استمرت على مدار الحرب، ففي شهر أبريل، حاول مئات الغزيين العودة للشمال في فوج واحد كبير، ليباغتهم الجيش بشكل متكرر بإطلاق النار العشوائي وقتل بعضهم.
تلك السياسة لها ماضيها المتجذر في ذكرى النكبة الفلسطينية. ففي الأعوام بين 1949 و1956، قتلت إسرائيل أكثر من 5000 لاجئ فلسطيني، جلهم من المدنيين والمزارعين، الذين حاولوا العودة لأراضيهم التي هجروا منها.
خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، شهد القطاع قيام الجيش بعمليات تدمير ونسف وإحراق للبيوت بشكل ممنهج واسع النطاق إلى أن طال ذلك الدمار نحو 70% من جميع المباني في القطاع بشكل جزئي أو كلي.
وقام الجيش أيضاً بمسح قرى معينة بأكملها، مثل قرية خزاعة في خان يونس القريبة من الحدود، وبيت لاهيا وبيت حانون شمال مدينة غزة، وأجزاء واسعة من الشجاعية ومخيمي المغازي والبريج.
هدف إسرائيل المعلن من مسح قرى وأحياء سكنية واسعة من الوجود بشكل كامل هو إنشاء منطقة عازلة موسعة تلتهم ما يزيد عن 20% من مساحة القطاع ومنع عودة سكان تلك المناطق إليها ليعيشوا على مقربة من السياج الفاصل بين غزة ومستوطنات الغلاف الإسرائيلية.
سياسة هدم القرى تلك لها تاريخ طويل مع الفلسطينيين، ممتد من نكبة عام 1948 عندما قامت إسرائيل بتدمير نحو 400 قرية فلسطينية.
الجيش الإسرائيلي آنذاك كان يتعمد أيضاً إحراق ونهب وتدمير ونسف البيوت بشكل ممنهج على نطاق واسع، كما كان يقوم بمحو قرى بأكملها من الوجود وطمس أي أثر لها، مثل قرية هوج التي سواها الجيش بالتراب وأقام على أنقاضها بلدة سديروت اليوم.
لعل أبرز وأهم الأسلحة الإسرائيلية خلال الحرب على غزة ونكبة عام 1948 هو الإنكار والتضليل لتسهيل استمرار الحرب.
إسرائيل تستخدم تلك السياسة في غزة عبر التشكيك في أعداد الضحايا الحقيقية التي تعلن عنها وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، ووصف تلك الوزارة بأنها وزارة حماس وغير جديرة بالثقة على الرغم من أن إحصائيات الوزارة تطابقت في الحروب الماضية مع الإحصائيات الإسرائيلية بدقة عالية.
وتحاول إسرائيل أيضاً التشكيك في هوية الضحايا بالقول إن غالبية من قتلوا في حربها على غزة هم من المنتمين لحركة حماس أو الفصائل المسلحة الأخرى.
كما تحاول التضليل عبر القول إنه لا يمكن معرفة سبب مقتل الضحايا بشكل مؤكد، وتزعم بأن بعضهم قتلوا بصواريخ حماس محلية الصنع المصابة بعيوب تقنية أدت لسقوطها على غزة، على الرغم من انخفاض كمية الصواريخ التي تطلق من غزة باتجاه إسرائيل بشكل كبير.
وتقوم إسرائيل بحرف اللوم عبر القول إن المدنيين الذين قتلوا في قصفها واجتياحات جيشها كانوا مجرد "دروع بشرية" تحتمي حماس بهم، بالإضافة لتكرار عبارة أن حماس هي من بدأت الحرب.
هذه الحيلة مطابقة لاستراتيجية إنكار النكبة الإسرائيلية التي تقوم على لوم الضحية وإنكار ما حدث لها. فإسرائيل تزعم أن الفلسطينيين هاجروا وحدهم من بيوتهم عام 1948 بطلب من الجيوش العربية، وأن الدول العربية هي من بدأت حرب مايو 1948 ويقع عليها اللوم في كل ما ترتب على ذلك، بالرغم من أن مجازر دير ياسين والرملة واللد وغيرها من الهجمات ارتكبتها الميليشيات الإسرائيلية قبل تلك الحرب بشهور.
والمفارقة أن إسرائيل لطالما عكفت على إنكار أي وجود للنكبة أو المسؤولية عنها من جهة، وتهديد الفلسطينيين بنكبة ثانية من جهة أخرى.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة