"أوامر الجنائية".. مخرجان لورطة سببها "انقلاب نتنياهو"

حرب نتنياهو على القضاء انقلبت عليه

المحكمة الجنائية الدولية تعمل وفقاً لمبدأ "التكامل"، وهو ما يعني أنها تمتنع عن التدخل لملاحقة متهمين بجرائم حرب في حال تعهد القضاء المستقل والمختص في دولة ديمقراطية ما بإجراء تحقيق "بحسن نية" في مزاعم جرائم الحرب المحتملة ومحاكمة مرتكبيها، حتى لو كانت تلك التحقيقات والمحاكمات صورية وغير جادة.

على سبيل المثال، أسقطت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقها في جرائم الحرب البريطانية المزعومة في العراق، على الرغم من العثور على "أساس معقول للاعتقاد" باحتمال ارتكاب فظائع.

والسبب هو أن القضاء البريطاني تعهد بالتحقيق، ولكنه لم يجرِ على أرض الواقع مساءلة حقيقية جادة، ولم يعاقب أيا من قادة الجيش ومسؤولي الحكومة.

القضاء الإسرائيلي كان يُنظر إليه في الغرب على أنه قضاء مستقل وقوي لدولة ديمقراطية ليبرالية، مع التغافل عن الاحتلال وتواطؤ القضاء الإسرائيلي في شرعنة الاستيطان وهدم البيوت والانتهاكات ضد الفلسطينيين.

لذلك، تفاءل نائب رئيس منظمة معهد الديمقراطية الإسرائيلي يوفال شاني في عام 2021 بأن محكمة لاهاي لن تلاحق إسرائيل حول جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية محتملة ارتكبت خلال حروبها السابقة على غزة، لأن القضاء المحلي يمكنه أن يتكفل بإجراء تحقيق صوري "بحسن نية" في تلك المزاعم.

لكن منذ عودة نتنياهو للحكم في نهاية عام 2022، كان من بين أولويات التحالف الحاكم تقويض استقلالية وقوة السلطة القضائية وتوسيع صلاحيات الحكومة والكنيست وقدرتهما على اتخاذ قرارات مخالفة للقوانين الدولية والمحلية.

هذا بالإضافة إلى محاولة التحكم في كيفية اختيار قضاة المحكمة العليا وغيرها من المحاكم على أسس سياسية، ومهاجمة النائب العام الإسرائيلي وتقويض سلطاتها.

هذه الخطوات قوضت من صورة استقلالية ونزاهة القضاء الإسرائيلي في الغرب، وهو ما يعني انتقاض مبدأ التكامل لمحكمة لاهاي وتمكينها من التدخل في قضية إسرائيل.

لذلك، تنقل هآرتس عن خبراء في القانون الدولي أن "تراخي جهاز تطبيق القانون ساهم في الأزمة أمام المحكمة الجنائية الدولية".

وتضيف الصحيفة أن النائبة العامة الإسرائيلية بيهارف ميارا، لم تتخذ أي إجراء ضد كبار المسؤولين الذين يحرّضون على إيذاء سكان غزة أو إرسال أي شخص للمحاكمة الجنائية، ولم تحقق في شبهات انتهاك قوانين الحرب. وكذلك المحكمة العليا لم تلزم الحكومة بحماية الحقوق الفلسطينية.

هذا الأمر جعل من الصعب الادعاء بأن إسرائيل تحقق بجدية مع نفسها للتذرع بمبدأ التكامل، ومنع المحكمة الجنائية الدولية من التدخل.

بحسب خبراء قانونيين، فإن هناك مخرجين وحيدين لإسرائيل من مأزق مذكرات اعتقال المحكمة الجنائية الدولية والنتائج المترتبة عليه من ضرر واسع بسمعة إسرائيل.

المخرج الأول هو تفعيل "مبدأ التكامل"، وإظهار أن القضاء الإسرائيلي قادر ومستعد على التحقيق في مزاعم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، على مختلف المستويات في الحكومة أو الجيش.

صحيفة والا قالت، إن بإمكان إسرائيل إنشاء لجنة تحقيق رسمية مستقلة داخلية لتجري تحقيقا شاملا حول سلوك الحكومة والجيش الإسرائيلي خلال الحرب ونشر النتائج، ما قد يقنع محكمة لاهاي بأنه تم استيفاء مبدأ التكامل.

وجادل رئيس تحرير صحيفة هآرتس، ألوف بين، بأن إسرائيل هي من يجب أن تحقق مع نتنياهو بتهم جرائم حرب بدلاً من أن يقف في قفص الاتهام في لاهاي.

وقال ألوف بين، إنه بدلاً من الصراخ بكلمات "نازيين" و"معادين للسامية" ضد محكمة لاهاي، يجب على إسرائيل إنشاء لجنة التحقيق الداخلية الوطنية تلك، للبحث فيما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت جرائم حرب في غزة أم لا.

وانضم وزير الحرب وأحد قادة المعارضة بيني غانتس إلى تلك الدعوة لإنشاء لجنة تحقيق وطني شاملة.

لكن تحقيقات اللجان الإسرائيلية المستقلة في العادة تعمل على تبييض صورة الجيش وحروبه على الفلسطينيين بدلاً من التوصل للحقيقة. ففي عام 2010 أنشأت إسرائيل "لجنة توركيل" للتحقيق في هجوم الجيش الإسرائيلي على سفينة مافي مرمرة التركية التي حاولت كسر حصار غزة، وذلك لتجنب الملاحقة القانونية أمام محكمة الجنايات الدولية.

التقرير خلص إلى أن الحصار الإسرائيلي على غزة قانوني وشرعي، لأن أغلبية سكان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائي وليس المجاعة أو التجويع، وتعرض التقرير لانتقادات واسعة طعنت في نزاهته وحياديته، ولكنه كان كافياً لإقناع محكمة لاهاي بعدم التدخل.

لكن نتنياهو يعارض حالياً تشكيل مثل تلك اللجنة التي يخشى من أن تدينه في فشل 7 أكتوبر، وتقضي على مستقبله السياسي.

هذا يترك الخيار للمدعي العام الإسرائيلي بفتح تحقيق مباشر ضد نتنياهو بتهم جرائم حرب في غزة لمنع تحقيق الجنائية الدولية.

إسرائيل الآن أمام خيار من اثنين، إما التضحية بنتنياهو وملاحقته داخلياً، وإما التضحية بسمعتها بأن تكون من بين الدول المتهمة بجرائم ضد الإنسانية في محكمة لاهاي بجوار روسيا وميانمار ورواندا وغيرها.

المخرج الثاني لإسرائيل: إنهاء الاحتلال

مخرج إسرائيل الثاني من مذكرات اعتقال محكمة لاهاي ومطاردة قادتها حول العالم، هو أن تنهي الحرب على غزة وتتخذ خطوات نحو إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية وحل الصراع مع الفلسطينيين.

فبحسب مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي فإن من شأن تلك الخطوة أن تدفع لتفعيل المادة 16 من ميثاق روما التأسيسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تتيح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تعليق التحقيقات والملاحقات القضائية لمدة 12 شهرا قابلة للتجديد لما لا نهاية.

تلك الخطوة تعد استثنائية ويمكن استخدامها لتحفيز حل الصراعات والحروب، ولكنها تتطلب ألا تقوم أي من دول المجلس الدائمة باستخدام حق الفيتو.

فإذا طرحت الولايات المتحدة تفعيل تلك المادة لحماية إسرائيل دون إنهاء الحرب والصراع، فإن بإمكان الصين أو روسيا استخدام حق الفيتو وإحباط توفير الحماية لنتنياهو.

لكن في حال تبني إسرائيل خطوات نحو حل الصراع، فقد تجمع دول أعضاء المجلس على تأجيل ملاحقة طرفيه، وهو ما يعني أيضاً تأجيل مذكرات الاعتقال التي تقدم بها مدعي عام المحكمة ضد 3 من قادة حركة حماس.

ويضيف مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي أنه يمكن لمذكرات الاعتقال تلك أن تكون الضامن على إنهاء حرب غزة وتنفيذ جميع بنود وقف إطلاق النار والتهدئة، لأنه يمكن استخدام احتمال تجديد أوامر الاعتقال كضامن قوي لإلزام الأطراف بشروط الصفقة المستقبلية.