400 كيلوغرام من الغموض.. أين اختفى اليورانيوم الإيراني؟

في فجر الخميس، 19 يونيو 2025، وبينما كانت أصوات الانفجارات تملأ سماء إيران، رُصدت 16 شاحنة ثقيلة وهي تتسلل نحو المدخل الرئيسي لنفق منشأة فوردو النووية، تلك القلعة المحفورة في أعماق جبل بضواحي مدينة قُم. وعلى مدار 24 ساعة، بدأت الشاحنات بنقل حمولات غير معروفة إلى موقع يبعد نحو كيلومتر واحد شمال غربي المنشأة، وفقاً لما كشفته نيويورك تايمز.

وتشير صور أقمار صناعية إلى أن السلطات الإيرانية عمدت إلى ردم مداخل الأنفاق بالتراب، في خطوة بدت وكأنها استعداد محسوب يسبق الضربة الأميركية، حسب سي بي إس نيوز.

بعد ساعات فقط، حلّقت 7 قاذفات شبح أميركية من طراز B-2 محمّلة بأربع عشرة قنبلة خارقة للتحصينات من نوع GBU-57، مستهدفة المنشأة لتدمير معدات تخصيب اليورانيوم في عمق الجبل. لكن حين وصلت القنابل، كانت المنشأة قد أُفرغت بالكامل، والعلماء أُجلوا، والمواد المشعة لم تعد في مكانها... فأين اختفى اليورانيوم الإيراني الذي يصل وزنه إلى حوالي 400 كيلوغرام؟

بحسب وكالة مهر الإيرانية، أفاد مصدر مطّلع بأنّ معظم اليورانيوم المخصّب الذي كان مخزناً في منشأة فوردو قد نُقل إلى موقع غير مُعلن قبل الضربة الأميركية.

وقد أكدت وكالة فرات للأنباء هذا الطرح، مشيرة إلى أن "المواد المشعة نُقلت بالكامل، ولم يكن هناك ما يعرّض السكان للخطر أثناء الهجوم". كما أفادت صحيفة وول ستريت جورنال نقلا عن التلفزيون الإيراني الرسمي بأن العاملين في المنشأة أُجلوا قبل الغارة.

وبحسب مجلة نيوزويك، فإن 16 شاحنة ظهرت على الطريق المؤدي إلى نفق فوردو، وتحركت إلى موقع يبعد نحو كيلومتر شمالاً. وتُظهر صور أقمار صناعية من شركة Maxar هذا النشاط، وأكدت وجود جرافات وشاحنات جديدة عند المدخل في اليوم التالي.

وأفاد تقرير لـ The Free Press أن أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية كانت تتابع هذه التحركات، لكنها اختارت عدم التدخل المباشر بغرض مراقبة الوجهة النهائية للشاحنات.

وبحسب المسؤول الأميركي السابق، ريتشارد نيفيو، فإن اليورانيوم كان موزعاً بين نطنز في الوسط، وفوردو قرب قُم، وأنفاق أصفهان، وكان يُخزَّن في أسطوانات كبيرة بعد التبريد، ما يُسهّل نقله نظرياً، وفقا لما صرح به لصحيفة فاينانشال تايمز.

أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحافي إلى أن لدى إسرائيل "معلومات استخباراتية مثيرة" عن مكان المخزون، لكنه لم يكشف التفاصيل، حسب ما ذكرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل.

أما ماركو روبيو، وزير الخارجية الأميركي، فقال لقناة سي بي إس: "لن نعرف الحقيقة لأيام"، مضيفاً أنه يشك في قدرة إيران على تحريك شيء في ظل الاستهداف المكثف.

كم جهته، أكّد رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافاييل غروسي، أن مفتشي الوكالة شاهدوا اليورانيوم للمرة الأخيرة قبل نحو أسبوع من الضربة، وأن إيران لم تُخفِ أنها قامت بحمايته. وأضاف في تصريح لصحيفة نيويورك تايمز أن اليورانيوم مخزن في حاويات صغيرة يمكن وضعها في صندوق سيارة، ملمّحاً إلى احتمال نقله.

رغم تأكيدات إسرائيل والولايات المتحدة على أن الهجمات أصابت المواقع بدقة، إلا أن الواقع يبدو أكثر تعقيداً. فقد صرّح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لشبكة بي بي سي بأن البرنامج النووي الإيراني "تعرّض لضربة كبيرة"، من دون أن يحدّد حجم الأضرار.

لكن روايات أخرى شكّكت في حجم التأثير. فقد قالت سيما شاين، المسؤولة السابقة في جهاز الموساد، لصحيفة فاينانشال تايمز، إنها مقتنعة بأن إيران نجحت في نقل المواد المخصبة وبعض أجهزة الطرد المركزي المتقدمة إلى مواقع أخرى، مؤكدة أن "البرنامج لم يُدمَّر بالكامل، خلافاً لما تدّعيه واشنطن".

من جهتها، أعلنت وكالة الطاقة الذرية الدولية أنها لم ترصد أي مؤشرات على تسرّب إشعاعي خارج المواقع المستهدفة. أما النائب الإيراني منان رئيسي، فقد صرّح لوكالة تسنيم بأن "البنية التحتية في فوردو ما زالت سليمة"، واصفاً تصريحات ترامب حول "تدمير البرنامج بالكامل" بأنها لا تعدو كونها "مهزلة إعلامية".

رغم الضربات التي عطّلت بعض منشآت التخصيب، فإن إيران، وفقاً لتقرير The Free Press، لا تزال تحتفظ بخبراتها العلمية ومخزونها النووي، بل ازدادت قناعتها بضرورة تعميق برنامجها النووي تحت الأرض.

كتب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى الأمم المتحدة في 22 مايو، بيانا يشير إلى أن طهران تعتزم تعزيز تحصين منشآتها.

وقال أليكس فتانكا، الباحث في معهد الشرق الأوسط، لمجلة تايم إن "نجاة إيران من هذا الصراع قد تدفعها للاعتقاد أن السلاح النووي هو الضمانة الوحيدة للردع".

أما أولي هاينونن، المسؤول السابق في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقال لـThe Free Press إنه لا يُستبعد أن إيران أنشأت مواقع تخصيب سرية يمكن بناؤها في مبانٍ صغيرة. وأضاف أن إسرائيل وأميركا استهدفتا موقع تحويل اليورانيوم في أصفهان لمنع إنتاج معدن اليورانيوم المستخدم في قلب الرأس النووي.

وأكد علي شمخاني، مستشار المرشد الأعلى، في تدوينة على حسابه بمنصة إكس أن "المواد المخصبة والمعرفة والإرادة السياسية لا تزال قائمة"، رغم تدمير بعض المواقع.

تشير نيويورك تايمز إلى أن إيران، إذا كانت تسعى فعلاً لامتلاك سلاح نووي، فإنها تتأخر في تحقيق ذلك أكثر من أي دولة أخرى في التاريخ.

فقد طوّرت الولايات المتحدة قنبلتها الذرية خلال أربع سنوات فقط في إطار مشروع مانهاتن، وتبعتها الاتحاد السوفيتي بعد أربع سنوات أيضاً، بينما أنجزت دول مثل الهند وباكستان وإسرائيل برامجها في فترات زمنية أقصر بكثير.

أما إيران، فهي تعمل على برنامجها النووي منذ أكثر من عشرين عاماً، من دون أن تصل إلى مرحلة علنية من التسلّح. وتُظهر وثائق سرّبها الموساد قبل سنوات، أن علماء إيرانيين كانوا يدرسون تقنيات تفجير نووي منذ عام 2003، قبل أن تصدر أوامر بوقف العمل على التسلّح، بحسب تقييمات الاستخبارات الأميركية.

ورغم النفي الرسمي المتكرر من طهران بأنها لا تسعى لامتلاك قنبلة نووية، فإن الغموض المحيط بمصير اليورانيوم المخصب وعدم القدرة على تحديد مكانه بدقة، يفتحان المجال لتكهنات واسعة وسيناريوهات لا يمكن استبعادها في ظل تصاعد التوترات.