الطيبة مهددة.. مستوطنون يعتدون على "آخر خط مسيحي" بالضفة
في صباحٍ صيفي هادئ، اجتازت سيارة مداخل بلدة الطيبة، القرية المسيحية الوحيدة ذات الأغلبية الكاملة من السكان المسيحيين في الضفة الغربية، لتصل إلى أطلال كنيسة القديس جاورجيوس البيزنطية.
نزل منها الأب بشار فواضله، بخطاه الثابتة، ليرحّب بوفد كنسيّ يضمّ غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث، بطريرك الروم الأرثوذكس في القدس، والكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك اللاتين في الأرض المقدسة.
هناك، في ساحة حجريّة مفتوحة أمام مذبح صغير بين أنقاض الكنيسة القديمة، تجمّع نحو ثلاثين رجل دين للصلاة، يحيط بهم صمت المآذن وأشجار الزيتون، قبل أن يتوجّهوا إلى الجزء الخلفي من الكنيسة، حيث أضرم المستوطنون النيران قبل أيام، وتضرّرت المقبرة المجاورة كذلك، حسب تقرير نشرته صحيفة
إل باييس الإسبانية.

الطيبة.. آخر خطوط الدفاع المسيحي في الأرض المقدّسة (أ.ف.ب)
المستوطنون يهددون الوجود المسيحي الفلسطيني
جاءت هذه الزيارة، حسب الصحيفة، بعد أن اتّهم قادة الكنائس المسيحية في الأرض المقدسة مستوطنين إسرائيليين بمهاجمة مواقع مقدسة في الضفة الغربية، في اعتداءات وصفها البطريرك ثيوفيلوس بأنها "تهديد مباشر ومتعمد لمجتمعنا المحلي، وللتراث التاريخي والديني".
فقد أحرق المستوطنون، الأسبوع الماضي، أراضي قرب كنيسة تعود للقرن الخامس ومقبرة تاريخية في الطيبة، في واحدة من سلسلة هجمات استهدفت القرية في الأيام الأخيرة. وقال البطريرك في مؤتمر صحفي إن هذه الأفعال "تُجبر البعض على التفكير في مغادرة الأرض"، في ظل تصاعد عنف المستوطنين منذ بدء الحرب على غزة.
ولم تسلم الطيبة، الواقعة شمالي الضفة الغربية المحتلة، من موجة الاعتداءات الأخيرة التي يشنّها المستوطنون اليهود على البلدات الفلسطينية. ففي السابع من يوليو، أضرم متطرفون النار في محيط كنيسة القديس جاورجيوس البيزنطية ومقبرتها، ضمن أربع هجمات تعرّضت لها البلدة خلال أيام قليلة.

الطيبة.. آخر خطوط الدفاع المسيحي في الأرض المقدّسة (أ.ف.ب)
وتقول منظمة "بلسان" الحقوقية إنّ هذه الهجمات تُستخدم كأداة لطمس الوجود المسيحي الفلسطيني، مشيرة إلى أنّ المستوطنين استولوا على ربع أراضي البلدة الزراعية، خصوصاً حقول الزيتون، بحسب إفادة رئيس البلدية السابق داوود خوري.
تضامن دولي ودعوات لوقف العنف
أثارت الاعتداءات على الكنيسة والمقبرة استنكاراً واسعاً في الأوساط الدينية والدبلوماسية. فقد توافدت وفود من عشرين دولة إلى الطيبة يوم الإثنين 14 يوليو في مهمة تضامن مع البلدة وسكّانها.
ودعا قادة الكنائس المجتمع الدولي إلى التحرّك العاجل، لا بالاكتفاء بإصدار البيانات، بل من خلال خطوات ملموسة أمام الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات، لوقف العنف المتصاعد، وفقا لوكالة رويترز.
قال البطريرك ثيوفيلوس الثالث إنّ "الاعتداءات الممنهجة من قبل هؤلاء المتطرفين يجب أن تتوقف فوراً"، فيما شدّد الأب فواضله على أنّ "الطيبة أصبحت آخر خط دفاع عن الوجود المسيحي الحي في أرض المسيح".
وتؤكد شهادات من سكان القرى المجاورة أن الوضع لا يقل خطورة، إذ قُتل ستة فلسطينيين في هجمات مشابهة خلال أيام فقط.
الشرطة الإسرائيلية لا تستجيب
وفي ظل هذا التصعيد، تغيب الحماية الأمنية بشكل تام. فقد أكد الأب فواضله: "لا شرطة، لا جيش، لا سلطات، اتصلنا بهم مرّتين أو ثلاثاً، ولم يأتِ أحد لحمايتنا".
كما تم إرسال رسائل رسمية إلى السلطات الإسرائيلية دون أي رد. ووفقاً لشهادات جمعتها "بلسان"، فإنّ الجنود الإسرائيليين يأتون فقط لحماية المستوطنين، وليس لردعهم.

الطيبة.. آخر خطوط الدفاع المسيحي في الأرض المقدّسة (أ.ف.ب)
وأضاف فواضله: "ندعو إلى تحقيق فوري وشفاف في سبب تجاهل الشرطة لنداءات الطوارئ، ولماذا تستمر هذه الجرائم بلا عقاب".
وتشير هذه الشهادات إلى شعورٍ عام بالعزلة والتخلي بين سكان البلدة، الذين يرون أنفسهم محاصرين وسط غياب القانون والدعم الدولي.
بلدة مسيحية بالكامل ذات مكانة دينية فريدة
تتميّز الطيبة بكونها البلدة الوحيدة التي يقطنها مسيحيون بنسبة 100٪، ويُقال إنّ السيد المسيح أقام فيها مع تلاميذه.
ويعيش في القدس والضفة الغربية نحو 50 ألف مسيحي فلسطيني، وتضمّ المنطقة مواقع مقدسة كبيت لحم، والناصرة، والطيبة، ما يجعلها ركناً أساسياً في تاريخ المسيحية.
وفي بيان تلاه الأب فواضله أمام الحاضرين، طالبت الكنيسة الكاثوليكية في الطيبة بوقف فوري للاعتداءات، ومحاسبة المعتدين وفقاً لاتفاقية جنيف.
كما طالبت بتفكيك المستوطنات غير القانونية، وتأمين الوصول إلى الأراضي الزراعية، ودمج الطيبة في برامج حماية خاصة باعتبارها منطقة دينية وتاريخية وتراثية، إضافة إلى دعم سكانها البالغ عددهم 1300 نسمة تقريباً، ممن يعانون الفقر والإهمال.
الحاجة إلى الاستقرار الاقتصادي ووقف مصادرة الأراضي
لا تقلّ الأزمة الاقتصادية حدّةً عن التهديدات الأمنية، وفقاً لرئيس البلدية السابق داوود خوري، الذي يحذّر من موجات هجرة جديدة بسبب انعدام فرص العمل. ويشير إلى عائقين أساسيين: سيطرة المستوطنين على الأراضي الزراعية، وإلغاء تصاريح العمل في إسرائيل بسبب الحرب.
يضيف خوري أنّ "التقنية الجديدة" للمستوطنين تتمثّل في التنكر كـ"رعاة غنم"، ليُحكموا قبضتهم على الأراضي ويمنعوا السكان من الاقتراب. ونتيجة لذلك، أصبح ربع أراضي الطيبة، البالغة نحو 2400 هكتار، تحت سيطرة المتطرفين اليهود.
هذه الهجمات، بحسب منظمة "بلسان"، جزء من استراتيجية مقلقة تمثّلت في إنشاء وحدة شرطة جديدة للمستوطنين، أُعلنت مؤخراً تحت إشراف وزير الأمن القومي المتطرّف إيتمار بن غفير، بهدف تنفيذ سياسة ضم الأراضي وتهجير السكان.
وقال خوري: "لو أتيت بطائرة الآن إلى الطيبة، فلن يبقى أحد هنا"، مضيفاً بأسى: "للأسف، إغراء الهجرة بات حقيقياً بسبب الوضع الحالي، ومن الصعب أن نرى متى سينتهي هذا الكابوس، وخصوصاً بالنسبة للشباب الذين فقدوا الأمل".