سياسة

من إيباي إلى كامبريدج.. مالك يفضح إرث العبودية لعائلات بريطانية

نشر
blinx
في قاعة مظلمة بمكتبة جامعة كامبريدج، تصطف صناديق أرشيفية بعناية، لكنها لا تحتوي على مخطوطات أدبية أو أعمال علمية تقليدية، بل على رسائل ودفاتر حسابات تكشف فصلاً مظلماً من التاريخ البريطاني.
هذه الوثائق لم تُكتشف في متحف أو أرشيف رسمي، بل خرجت إلى العلن بعدما اشتراها الباحث والشاعر البريطاني من أصول غيانية مالك الناصر عبر موقع إيباي، وهو يتتبع جذوره العائلية.
حينها أدرك أن بين يديه ما يمكن أن يغيّر فهمنا لتاريخ عائلات بريطانية كبرى مثل سانباش وتين التي بنت إمبراطوريات مالية هائلة على تجارة الرق، مستغلة عمل عشرات الآلاف من العبيد الأفارقة، حسب تقرير نشرته صحيفة الغارديان.

كيف اكتشف مالك الناصر جذوره؟

بدأت رحلة مالك الناصر من شعور بالإحباط لغياب السجلات الرقمية التي تمكّنه من معرفة أصله، ما جعله يلجأ إلى هواة جمع الطوابع والمقتنيات النادرة الذين امتلكوا وثائق مرتبطة بتجارة الرقيق.
قرر شراء هذه المواد من المزادات الإلكترونية، وفي مقدمتها موقع إيباي ليجمع خلال عقدين ما يزيد على 600 رسالة وصورة ووثيقة. أطلق على هذه المجموعة اسم مجموعة سانباش- تين وأصبحت لاحقاً جزءاً من الأرشيف الرقمي لجامعة كامبريدج.
لكن أهمية المشروع لم تكن تاريخية فقط، بل شخصية أيضاً. فقد اكتشف الناصر أن والده عمل في ثلاثينيات القرن الماضي في مزارع قصب السكر التابعة لشركة سانباش وتين في غيانا، ما كشف ارتباط عائلته المباشر بالضحايا والمستغِلين على حد سواء، وفقا لتقرير نشرته جامعة كامبريدج.
قال الناصر لصحيفة الغادريان: "لقد كان هذا التاريخ الهائل مختبئاً أمام أعيننا، لكن أحداً لم يعتبره مهماً بما يكفي".

حجم الثروة وأنشطة التجارة

بحسب ما توصلت إليه الأبحاث التي قام بها الناصر خلال مسيرته لنيل شهادة الدكتوراه، كانت شركة سانباش وتين وشركاؤهم واحدة من أكبر الكيانات التجارية في الإمبراطورية البريطانية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. نشطت الشركة في مناطق ديميرارا وبيربيس وإيسيكويبو، وهي أقاليم تشكّل اليوم دولة غيانا، حيث امتلكت مزارع شاسعة لتصدير السكر والبن والقطن والأخشاب والدبس والروم، وفقا موقع المتحف الوطني في ليفيربول.
لم تقتصر مكاسب العائلة على العبودية المباشرة، بل امتدت إلى مرحلة ما بعد إلغاء الرق عام 1833. فبدلاً من تعويض المستعبَدين، أقرّت الحكومة البريطانية تعويضات ضخمة لمالكي العبيد الذين فقدوا "ممتلكاتهم"، حسب الغارديان. كانت عائلة سانباش بين أكبر المستفيدين، حيث حصلت على مبالغ طائلة ساعدتها على الحفاظ على نفوذها الاقتصادي والسياسي.
وتشير التقديرات إلى أن ثروة بعض ممتلكاتهم في ذلك الوقت بلغت 541 ألف جنيه إسترليني، أي ما يعادل أكثر من 50 مليون جنيه بقيمة اليوم، وفقا لتقرير جامعة كامبريدج.
كما استثمرت هذه الثروات في جمع الأعمال الفنية وبناء القصور، وأسهمت في تشكيل هوية مدينة ليفربول كمركز تجاري وثقافي، وفق موقع متحف ليفيربول.

العبيد كـ "رؤوس ماشية" ومحركات

تتجلّى أحد أكثر جوانب هذه الوثائق صدمة في رسالة مؤرخة عام 1815 كتبها تشارلز ستيوارت باركر، أحد الشركاء المؤسسين، إلى صموئيل سانباش. تحدث باركر فيها عن "بيع 125 عبداً بين رجال ونساء وأطفال مقابل نحو 1800 جنيه للواحد"، مشيراً إلى أن "قيمة العبيد تُقدَّر كما تُقدَّر قيمة الماشية". كما شبه، في نفس الرسالة، قوة هؤلاء العبيد بقدرة المحركات البخارية، قائلاً إن "قوة الآلة يجب أن تتناسب مع قوة الزنوج"، بحسب التعبيرات المستخدمة في الوثيقة.
ويعلّق مالك الناصر على ذلك بالقول إن الرسائل تكشف "اللاإنسانية المطلقة" التي كانت سائدة آنذاك، حيث حُوّل البشر إلى وحدات إنتاج تقاس كما يقاس الحصان البخاري في المحركات. وهو ما يعكس رؤية اقتصادية جردت الأفارقة من إنسانيتهم بالكامل وجعلتهم جزءاً من حسابات الربح والخسارة، وفقا لتقرير جامعة كامبريدج.

تأثير ممتد في السياسة والثقافة

لم يتوقف نفوذ عائلة سانباش عند الاقتصاد فقط، بل امتدت أذرعها إلى السياسة المحلية في ليفربول، حيث شغل صموئيل سانباش منصب عمدة المدينة في مطلع القرن التاسع عشر. كما نسجت العائلة شبكة من العلاقات عبر الزواج مع أسر نافذة، بينها عائلة غلادستون التي أنجبت لاحقاً رئيس الوزراء البريطاني وليام غلادستون، وفقا لجامعة كامبريدج.
على المستوى الثقافي، استثمرت العائلة ثرواتها في الفنون، فاقتنت أعمالاً منحوتة ولوحات شهيرة لا تزال معروضة في متاحف بريطانيا مثل Walker Art Gallery في ليفربول. لكن هذه الرعاية للفن لا يمكن فصلها عن مصادر التمويل القائمة على تجارة البشر، ما يثير جدلاً متجدداً حول كيفية التعامل مع الإرث الاستعماري في المؤسسات الثقافية.

حمل التطبيق

© 2025 blinx. جميع الحقوق محفوظة

© 2025 blinx. جميع الحقوق محفوظة