من علم النفس التفاوضي إلى قلب المواقف.. سر انعطافة ترامب الأوكرانية
قبل أشهر قليلة فقط، بدا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أقرب إلى موسكو منه إلى كييف. في فبراير، دخل في مشادة علنية مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، داخل البيت الأبيض، واتهمه بأنه "لا يملك الأوراق التي تخوّله الانتصار" على الدب الروسي، ثم استضاف فلاديمير بوتين في قمة ألاسكا في أغسطس، في خطوة فسّرها كثيرون على أنها محاولة لإعادة إدماج الرئيس الروسي في المشهد الدولي.
لكن هذا المسار انقلب فجأة، إذ كتب على منصته تروث سوشيال، مباشرة بعد خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك أمس، الثلاثاء، أن أوكرانيا، بدعم الناتو والاتحاد الأوروبي، قادرة على استعادة كامل أراضيها "وربما الذهاب أبعد من ذلك"، واصفاً روسيا بأنها "نمر من ورق" يواجه ضائقة اقتصادية.
ويأتي هذا التصريح المفاجئ بعد الإدلاء بمواقفه السابقة التي شددت على أن الحرب لن تنتهي إلا بتنازل كييف عن أجزاء من أراضيها. فما الذي دفعه إلى هذا الانعطاف الكبير؟
الأسباب وراء هذا التحول المفاجئ
تقدم شبكة
سكاي نيوز أستراليا ٣ تفسيرات أساسية لهذا التحول:
- الواقع العسكري والاقتصادي على الأرض:
تكبّدت روسيا خسائر بشرية ومادية فادحة، في وقت أظهرت أوكرانيا صموداً غير متوقع قلب موازين التقديرات السابقة. مع تراكم هذه المعطيات، لم يتردد ترامب في التصريح بأن روسيا "تقاتل بلا هدف منذ ٣ سنوات ونصف السنة في حرب كان يمكن لجيش حقيقي أن يحسمها في أسبوع واحد".
هذا الموقف لم يكن مجرد انتقاد عابر، بل إشارة واضحة إلى قناعة جديدة لديه بأنّ موسكو أضعف مما كانت تبدو، وأنّ الطريق بات ممهداً أمام كييف لاستعادة أراضيها إذا ما استمرّ الدعم الغربي.
- تأثير الحلفاء الأوروبيين:
مارس الأوروبيون ضغوطاً متزايدة على واشنطن لثنيها عن تقديم أي تنازلات مجانية لموسكو، إذ توافد عدد من قادة القارة إلى العاصمة الأميركية الشهر الماضي مؤكدين أن روسيا لا تفهم سوى لغة القوة.
وبالتوازي مع ذلك، رفعت دول الناتو الأوروبية مستوى دعمها العسكري لأوكرانيا، عبر تزويدها بأسلحة متطورة ومنظومات دفاع جوي متقدمة.
أمام هذا الزخم، وجد ترامب، الذي كان يشتكي مراراً من عبء التمويل الأميركي، نفسه مضطراً للتماهي مع الموقف الأوروبي حفاظاً على تماسك الحلف ووحدة صفّه.
- الاعتبارات السياسية الداخلية:
واجه ترامب في الداخل الأميركي انتقادات من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بسبب ما اعتبر "ليناً" في تعامله مع بوتين. تعديل الموقف نحو مزيد من التشدد يخدمه انتخابياً، إذ يعزز صورته كقائد قوي في السياسة الخارجية، ويمنحه أوراقاً أمام خصومه الذين يصفونه بأنه متهاون مع الكرملين.
أمّا موقع
بوليتيكو فأشار إلى أن تصريحات ترامب تعكس أيضاً تزايد استيائه من بوتين شخصياً، إذ رغم استضافته في ألاسكا، واصل الرئيس الروسي تكثيف هجماته الصاروخية على أوكرانيا، بل وصلت الطائرات المسيّرة الروسية إلى أراضي بولندا العضو في الناتو، فيما اتهمت إستونيا موسكو باختراق مجالها الجوي.
هذه الأحداث زادت من شعور ترامب بأن بوتين يحرجه أمام حلفائه.
تكتيكات ترامب في تغيير المواقف
شكّلت تصريحات ترامب الأخيرة بشأن أوكرانيا تحوّلاً مفاجئاً في مقاربته للحرب.
فبعد أن كان يطرح تسوية تقوم على تنازلات من جانب كييف، انتقل إلى خطاب مغاير تماماً يؤكد أن أوكرانيا قادرة على استعادة كامل أراضيها وربما الذهاب أبعد من ذلك.
هذا الانعطاف لم يكن مجرد تعديل في الموقف، بل بمثابة قلب كامل للطرح السابق، ما يعكس طبيعة ترامب في استخدام الانعطافات الحادة كأداة سياسية لإعادة ضبط التوازن في لحظة معينة.
يشير موقع
Psychology Today إلى أن خبراء علم النفس التفاوضي يرون أن هذا النمط ليس جديداً في مسيرة ترامب
.
فقبل سنوات من نشر كتابه الشهير "فن عقد الصفقات"، وُصفت استراتيجيته بأنها أقرب إلى ما أسماه روبرت سيالديني وزملاؤه عام 1975 بتقنية "الباب في الوجه" (Door in the Face).
تقوم هذه التقنية على تقديم طلب مبالغ فيه أو غير واقعي أولاً، بحيث يُرفض من الطرف الآخر، ثم العودة بطلب أقل حجماً كان هو الهدف الحقيقي منذ البداية.
هذا الأسلوب، المعروف أيضاً باسم "الرفض ثم التراجع"، يمنح المفاوض مظهراً أكثر اعتدالاً ويزيد فرص قبول مطلبه النهائي.
ويكشف مثال غزة مطلع عام 2025 عن تطبيق عملي لهذه الاستراتيجية، حين طُرح مشروع ضخم بقيمة 100 مليار دولار لتحويل الساحل إلى "ريفيرا الشرق الأوسط"، يتضمن، بحسب تقارير، التهجير المؤقت لأكثر من مليوني فلسطيني إلى دول مجاورة. ورغم رفض الخطة عالمياً واعتبارها ضرباً من التطهير العرقي، فإن محللين رأوا أن الهدف الحقيقي كان تهيئة الأرضية لقبول بدائل أقل قسوة، مثل ترتيبات حكم ذاتي محدودة تحت إشراف دولي، بحيث تبدو "معتدلة" مقارنة بالطرح الأول، وذلك وفق تقرير صادر عن
المركز العربي واشنطن دي سي.
ترحيب دولي بموقف ترامب الجديد
نقلت صحيفة
لوموند أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اعتبر تصريحات ترامب مؤشراً على إدراك متزايد بأن "استمرار الاحتلال الروسي" يهدد الأمن الأوروبي برمته، وأن دعم أوكرانيا "حتى استعادة أراضيها" شرط أساسي لاستقرار القارة.
في مقابلة مع
فوكس نيوز، قال الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، إنه فوجئ بالتحول لكنه يعتقد أن علاقته مع ترامب "أفضل مما كانت عليه من قبل".
وأضاف: "كذّب بوتين مراراً على ترامب، وهذا أحدث فارقاً بيننا"، مؤكداً أن تصلب موسكو ساعد في تقارب الموقف الأميركي مع كييف.
كما شدد زيلينسكي على أنّه بات يشعر بقدر أكبر من التفاؤل بعد أن وصفه ترامب بأنه "رجل شجاع" خلال لقائهما على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ترامب بدوره قال: "لدينا احترام كبير للمعركة التي تخوضها أوكرانيا، وهذا أمر مذهل فعلاً".