موقفان وتحفظات.. لماذا تأخر رد حماس؟
في لحظة تُوصف بأنها الأخطر منذ اندلاع الحرب، وجّهت إسرائيل ما سمّته "الفرصة الأخيرة" لسكان غزة لمغادرة مدينتهم والتوجّه جنوباً عبر ممر وحيد، محذّرة أن من يبقى سيُعامل كـ"إرهابي أو داعم للإرهاب".
امتلأت الطرق المؤدية إلى الجنوب بعائلات تسير حفاة أو تركب شاحنات محمّلة على عجل، فيما قصفت الطائرات الأحياء بلا توقف، تاركة وراءها روايات عن نزوح قاسٍ وخوف لا ينقطع.
يأتي هذا الإنذار في وقت تخوض فيه حماس مشاورات مع الوسطاء حول خطة ترامب لوقف إطلاق النار، التي تحظى بدعم دولي واسع لكنها تتضمن شروطاً "وُصفت بالمهينة" من جانب الحركة.
تحت وطأة القصف الإسرائيلي المكثف الذي تشهده مدينة غزة، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي كاتس أنّ سكان المدينة أمام "الفرصة الأخيرة" لمغادرتها والتوجه جنوباً، في خطوة وصفها بأنها تهدف إلى عزل عناصر حركة حماس داخل المدينة. وقال في بيان إنّ "كل من يبقى في غزة سيُعتبر من الإرهابيين أو من داعمي الإرهاب"، بحسب تعبيره.
وأوضح كاتس أنّ الجيش الإسرائيلي سيطر على معبر نتساريم، الذي يمتد من شرق القطاع إلى ساحله الغربي، ليقسّم القطاع فعلياً بين شمال وجنوب، مؤكداً أنّ أي شخص يغادر مدينة غزة نحو الجنوب لن يتمكّن من ذلك إلا عبر نقاط تفتيش عسكرية إسرائيلية. وبذلك بات أمام السكان ممر وحيد لمغادرة المدينة الخانقة تحت النار.
ويأتي هذا التطور بعد ساعات من إعلان الجيش إغلاق آخر طريق متبقٍ يربط جنوب القطاع بشماله، ما جعل معبر نتساريم السبيل الوحيد للخروج.
وفي المقابل، اعتبرت حركة حماس أنّ تصريحات كاتس "تجسيد صارخ للغطرسة والاستخفاف بالمجتمع الدولي وبمبادئ القانون الدولي"، حسب ما نقلته فرنس بريس، معتبرة أنها تمهّد لتصعيد ما وصفته بـ"جرائم الحرب بحق مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ".
قدّم سكان غزة روايات متباينة عن معاناتهم وآمالهم، حيث تحدّث بعضهم لوكالة فرانس برس وآخرون لصحيفة نيويورك تايمز، في شهادات تكشف حجم اليأس والرغبة العارمة بوقف إطلاق النار.
وفي مدينة غزة، يروي رباح الحلبي (60 عاماً) لوكالة فرانس برس من خيمته داخل مستشفى الشفاء أنّ "الوضع هنا لا يختلف عن الجنوب… القصف في كل مكان والنزوح رعب وذل"، فيما يؤكد فضل الجدبة (26 عاماً) من حي الرمال أنّه لن يغادر المدينة رغم إغلاق الطرق وتوغّل الدبابات، قائلاً: "نريد وقف إطلاق النار بأي ثمن، لقد تعبنا ولا أحد يقف معنا".
أما صحيفة
نيويورك تايمز فقد نقلت شهادات عديدة لسكان غزة أظهرت دعماً واسعاً لاقتراح وقف إطلاق النار. وقال محمود بلبول، 43 عاماً، وهو عامل بناء من غزة، إنّ "حماس يجب أن توافق على هذا العرض، نعيش بالجحيم بالجحيم"، موضحاً أن جيرانه لا يتحدثون منذ يومين إلا عن الخطة، محذراً: "إذا رفضت حماس، فسأرحل مع أسرتي إلى الجنوب".
وقالت نسايم مقاط، 30 عاماً، التي فرت إلى الجنوب مع طفلتها، إنّ "حماس يجب أن تفكر أكثر بنا وبما عانيناه، نحن نموت بلا سبب". بينما أشار عبد الحليم عوض، 57 عاماً، صاحب مخبز في دير البلح، إلى أنه يقبل "أي ثمن" لوقف الحرب، لكنه شكك في أن حماس تشاركه هذا الشعور، قائلاً: "لو كانوا يهتمون بالرأي العام لما وصلنا إلى هذه الحال".
وفي خان يونس، عبّر محمود أبو مطر، 35 عاماً، عن أمله في أن "تفرض الولايات المتحدة الاتفاق على الطرفين مباشرة"، مضيفاً بمرارة أنّ المفاوضين "يجلسون في غرف مكيفة، بينما نحن نعيش في الرمال، نقطع نصف ساعة للحصول على ماء أو كيس دقيق، ونُقتل في الطريق".
ظروف مروّعة بغياب العمل الإغاثي
تعمّقت الأزمة الإنسانية في مدينة غزة مع إعلان اللجنة الدولية للصليب الأحمر تعليق عملياتها الإغاثية نتيجة القصف المكثّف والعمليات العسكرية الجارية، مؤكدة أنّ عشرات الآلاف ممن لا يزالون محاصرين داخل المدينة يعيشون ظروفاً "مروّعة" تفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة من ماء وغذاء ورعاية طبية. وأشارت اللجنة إلى أنّ استمرار الأعمال القتالية يجعل وصول فرقها الميدانية إلى المدنيين أمراً بالغ الخطورة.
ويأتي هذا القرار في وقت تنتهي فيه المهلة المحددة بأربعة أيام، فيما تواصل حركة حماس دراسة خطة ترامب التي منحها "ثلاثة أو أربعة أيام" للرد، ما يضيف بعداً سياسياً إلى المشهد الإنساني المتدهور.
وقبل أيام فقط، اضطرت منظمة "أطباء بلا حدود" إلى تعليق أنشطتها هي الأخرى بسبب كثافة القصف الإسرائيلي، الأمر الذي حرم السكان من واحدة من أبرز الجهات الطبية العاملة في الميدان.
أما وكالات الأمم المتحدة وبعض المنظمات الإنسانية الأخرى فما زالت تحاول الاستمرار بعملها، وإن كان ذلك في نطاق محدود وتحت تهديد دائم، ما يضع عشرات آلاف المدنيين بين فكي حصار مزدوج: قصف لا يتوقف وخدمات إغاثية شبه مشلولة.
نقلت وكالة فرانس برس عن مصدر قريب من حركة حماس أن الحركة تبدي تحفظات على بعض البنود الواردة في الخطة، وفي مقدمتها ما يتعلق بنزع السلاح وإبعاد كوادر من حماس والفصائل الأخرى عن قطاع غزة، معتبراً أن هذه الشروط تشكل عقبات جدية أمام التوصل إلى اتفاق.
وأوضح المصدر أنّ الحركة تجري مشاورات مكثفة "على مدار الساعة" بين قيادتها داخل فلسطين وخارجها، بالتوازي مع نقاشات مستمرة مع الوسطاء. وكشف أن يوم الإثنين وحده شهد ٤ لقاءات في الدوحة جمعت وفود حماس مع الوسطاء القطريين والمصريين، وبحضور مسؤولين أتراك.
ويأتي هذا في وقت تواصل فيه قطر وتركيا ومصر الضغط على الحركة من أجل القبول بالخطة باعتبارها الطريق الأقصر لوقف إطلاق النار وتفادي مزيد من الخسائر الإنسانية، حيث شددت هذه الأطراف على ضرورة إبداء مرونة أكبر وتغليب البعد الإنساني على الخلافات السياسية.
غير أن التحفظات على البنود الأمنية، ولا سيما شرط نزع السلاح، لا تزال تمثل ما وصفه المصدر بـ"الأفخاخ" التي يصعب تجاوزها دون ضمانات واضحة.
أفاد مصدر مطّلع أنّ حركة حماس أبلغت الوسطاء بأن أي اتفاق لا يمكن أن ينجح ما لم يتضمّن ضمانات دولية واضحة تفرض على إسرائيل الانسحاب الكامل من قطاع غزة، وتمنعها من خرق وقف إطلاق النار عبر عمليات اغتيال تستهدف قادتها داخل القطاع أو خارجه.
وترى الحركة أنّ هذه الضمانات تشكّل الحد الأدنى لأي تسوية ممكنة، معتبرة أنّ تجاربها السابقة مع إسرائيل أظهرت هشاشة أي تفاهمات لا تترافق مع التزامات دولية صريحة وملزمة.
وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة
واشنطن بوست أنّ مسؤولاً بارزاً في حماس صرّح بأن بعض بنود المقترح "غير مقبولة ويجب تعديلها"، من دون أن يقدّم تفاصيل إضافية، موضحاً أن الرد الرسمي سيصدر فقط بعد التشاور مع باقي الفصائل الفلسطينية. وأضافت الصحيفة أن حماس أبلغت قطر ومصر بملاحظاتها وطلبت مزيداً من الوقت لمناقشة الخطة.
وتابعت واشنطن بوست أنّ الخطة التي حظيت بدعم دولي واسع تنص على إطلاق سراح الرهائن، وتنحي حماس عن الحكم في غزة ونزع سلاحها، مقابل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين ووقف القتال. كما تضمن تدفق المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار القطاع ووضعه تحت إدارة دولية، لكنها لا تقدّم أي مسار نحو إقامة دولة فلسطينية.
وبهذا تضع الحركة الكرة في ملعب الوسطاء، مطالبةً إياهم بتأمين مظلة حماية دولية تمنح السكان أملاً بالاستقرار وتوقف دوامة الاغتيالات والتوغلات، وهو ما تعتبره حماس شرطاً أساسياً لإقناع قاعدتها الشعبية بجدوى الاتفاق.
وأفاد مصدر ثانٍ قريب من المفاوضات في الدوحة لوكالة فرانس برس عن وجود "رأيين في حماس: الأول يؤيد الموافقة غير المشروطة على الخطة ووقف إطلاق النار على أن يتولى الوسطاء ضمان تنفيذ إسرائيل للخطة، فيما الطرف الثاني لديه تحفظات كبيرة على بنود أساسية، منها رفض عملية نزع السلاح وإبعاد أي مواطن إلى الخارج".
من جهته، قال نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، محمد الهندي، في بيان: "نحتاج لإدخال تعديلات على الخطة، تتعلق بوضع المقاومة، إضافة لجدولة عملية الانسحاب الإسرائيلي من غزة"، مؤكداً "نريد ضمانات واضحة لإنهاء الحرب على غزة"، مضيفاً: "يجب جدولة انسحاب الاحتلال وربطه بتسليم الأسرى بشكل واضح".