ذاكرة تحت الأنقاض.. قصص عائلات تبحث عن جثث أطفالها في غزة
في صباح خانق، وقف غالي خضر وسط الركام المتناثر لمنزله في جباليا، يحمل بيديه بقايا عظام والديه اللذين قضيا تحت القصف الإسرائيلي، كما ذكرت صحيفة
الغارديان التي نقلت كيف عاد بعد وقف إطلاق النار لينبش بيديه الأنقاض بعدما فشل في إقناع والده بمغادرة المنزل قبل الغارة.
هذا المشهد المأساوي ليس استثناءً بل جزء من موجة عارمة من الفلسطينيين الذين تدفقوا منذ إعلان وقف إطلاق النار إلى شمال غزة ووسطها وجنوبها، بحثاً عن أحبائهم تحت الركام، محاولين استعادة ما يمكن إنقاذه من أجساد أو حتى شظايا وملابس أو صور، إذ تشير تقديرات الدفاع المدني، بحسب تقرير نشرته صحيفة
إلباييس، إلى أنّ نحو 14 ألف جثة لا تزال عالقة تحت الأنقاض بعد عامين من القصف المستمرّ.
حسين عودة.. ابن ينام تحت الأنقاض
في حي جباليا أيضاً، روى تقرير إلباييس حكاية حسين عودة الذي كان يركض خلف صراخ زوجته يوم انفجار الصاروخ، ففي لحظة واحدة فقد أبناءه الـ٣ محمد ويوسف وجلال، ولم يتمكّن من دفن سوى محمد فيما ظلّ جثمان جلال تحت الركام لشهور طويلة.
وعندما عثر أخيراً على يوسف بعد 65 يوماً اضطر إلى الرحيل وترك جلال مدفوناً في ركام لم تُرفع أنقاضه لغياب المعدات الثقيلة. وقال عودة للصحيفة إنّ "العذاب لا يوصف.. لم أودّعه حتى".
يارا ويزن ولارا.. قبر بـ٣ أسماء وجسد واحد
أما في حي آخر من غزة، فقد وثّقت إلباييس قصة عائلة مشتَهى التي تحوّل منزلها إلى كومة رماد بعد استهدافه بصاروخ إسرائيلي. استطاعت العائلة العثور على جثمان الابنة يارا، فيما اختفى شقيقاها يزن ولارا تماماً تحت الركام، وبعد وقف إطلاق النار لم يعد لدى العائلة أمل في العثور عليهما. اليوم يرقد اسم الأشقاء الـ٣ على شاهدة قبر واحدة لا تضم سوى جثمان يارا.
كشفت إلباييس أنّ الدمار طال 92% من مباني القطاع، وأن أكثر من 53 مليون طن من الركام جعلت رجال الدفاع المدني يعملون من دون معدات ثقيلة أو وقود كافٍ بعدما منعت إسرائيل دخول الجرافات.
وقال المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل للصحيفة إنهم كانوا يسمعون صراخ أحياء تحت الركام لكنهم كانوا يصلون بعد فوات الأوان.
وفي تقرير الغارديان، وصف المسعفون في الشيخ رضوان كيف اضطروا إلى الحفر بأيديهم أو باستخدام مطارق بسيطة لاختراق الجدران المنهارة، وسط طرقات مغلقة وذخائر غير منفجرة تجعل مهمة انتشال الجثث أكثر خطورة وتعقيدا.
نقلت الغارديان أيضاً قصة يحيى المقرّا من جباليا، الذي فقد أخاه شريف في قصفٍ في يوليو، وعاد بعد وقف النار ليبحث بنفسه في مكان المنزل فلم يجد شيئاً، وقال للصحيفة: "كنت أبحث عن أي أثر.. قطعة ملابس.. أي شيء يثبت أنّه كان هنا".
ومن جانب آخر، أوضحت إلباييس أنّ الرغبة في العثور على الجثث أو بقاياها ليست مجرد حنين بل واجب ديني وثقافي عميق، إذ قال الأخصائي النفسي الفلسطيني فداء العرج من دير البلح إن عدم القدرة على دفن الأحبة يترك جرحاً نفسياً مضاعفاً وشعوراً مؤلماً بالعجز وكأنهم تُركوا وحدهم.
معركة بين الحياة والموت المؤجل
ونقلت الغارديان عن الدفاع المدني تقديراته بأنّ عمليات انتشال الجثث قد تستمرّ ما بين ٦ أشهر إلى عام كامل إذا سُمح بدخول المعدات الثقيلة. وحتى ذلك الحين، سيبقى كثير من الغزيين في انتظارٍ قاسٍ بين الحطام، يفتشون بأيديهم ويسجلون أسماء أحبائهم على الجدران ويأملون في العثور ولو على "عظمة" واحدة يوارونها التراب.
في غزة، لم يعد الموت حدثاً لحظة وقوعه، بل رحلة طويلة من الانتظار، من الحفر في صمتٍ مثقلٍ بالوجع، رحلة يبدأها الفلسطينيون بعد توقف القصف بأيدٍ عارية وقلوبٍ مكسورة، في محاولة يائسة لإعادة كرامة الموتى إلى التراب وإعادة جزء من أرواحهم إلى الذاكرة.