بـ3 كتب وعشر صور.. هكذا دخل ساركوزي زنزانة الـ9 أمتار
من "ساكن الإليزيه" إلى "نزيل لا سانتيه".. مصيرٌ مفاجئ يصنع انقلاباً غير مسبوق في تقاليد الجمهورية الفرنسية، حيث لم يسبق لرئيس فرنسي سابق أن قضى ليلة واحدة وراء القضبان.
في صباح يوم الثلاثاء الموافق 21 أكتوبر 2025، أُقتيد نيكولا ساركوزي إلى سجن "لا سانتيه" في الدائرة 14 من باريس، لبدء تنفيذ حكم بالسجن مدته خمس سنوات في قضية تمويل حملته الانتخابية لعام 2007، وذلك على الرغم من استئناف الحكم الذي لا يوقف تنفيذ العقوبة.
وفي الساعات الأربع والعشرين الأخيرة له خارج الأسوار، بدا وكأنه يختزل فصلاً كاملاً من حياته في حقيبة صغيرة، كما ذكرت صحيفة
لو باريزيان، لم تحوِ سوى ثلاثة كتب ونحو عشر صور شخصية، وهي رموز مكثفة لـ"حياة" بأكملها تم اختزالها في أشياء قليلة العدد لكنها ثقيلة الدلالة.
وبينما كانت الساحة السياسية منهمكة بالرمزية التاريخية للحدث، اتجهت وسائل الإعلام الفرنسية إلى طرح أسئلة عملية أكثر: أين سيُسجن الرئيس السابق؟ وكيف ستكون ظروف احتجازه؟ وما الذي يميّز هذا السجن العريق؟
السيناريو الأكثر ترجيحاً، وفقاً لما نقلته
وسائل الإعلام الفرنسية، هو أن يُحتجز ساركوزي في إحدى الـ١٥ زنزانة انفرادية الموجودة ضمن قسم العزل الإداري، بعيداً عن باقي نزلاء السجن.
هذا الإجراء ليس امتيازاً شخصياً أو رفاهية، بل هو جزء من البروتوكولات المتبعة في إدارة السجون لحماية النزلاء البارزين من أي احتكاك قد يثير مشاكل أمنية أو سياسية، ولتفادي التقاط صور لهم بواسطة الهواتف المحمولة المنتشرة داخل السجن. وتشمل هذه الإجراءات تحديد أوقات خاصة للتنزه، وضبطاً دقيقاً للمكالمات الهاتفية، ومنع أي اختلاط غير مصرح به.
وتُعد زنزانة العزل في سجن "لا سانتيه" من الحديثة نسبياً، إذ تحتوي على حمام داخلي، وسرير، ومكتب صغير. كما يُسمح للسجين بطلب اشتراك في التلفاز مقابل 14 يورو شهرياً، وثلاجة صغيرة مقابل حوالي 7.5 يورو شهرياً، مع الولوج إلى قاعة الرياضة ومكتبة.
ويضاف إلى ذلك ساعة تنفّس يومية منفرداً في فُسحةٍ بنحو 30 م² محاطة بثلاث طبقات حماية، بحسب
TF1 إنفو، مع إمكان "زيارات عائلية" مدتها 6 ساعات بلا رقابة في الإقامات الطويلة. هذه الإجراءات ترافقها رقابة مستمرة من الحراس، مع تقليص فرص أي اتصال مباشر مع باقي النزلاء.
وتؤكّد لو باريزيان أنه سيتمكن من شراء مستلزمات النظافة والمواد الغذائية عبر كتالوج خاص، لتجنب الاعتماد على وجبات الكانتين "سيئة السمعة".
وعند وصوله، وفقاً لنادي الحقوقيين،
Le Club des juristes، سيمرّ ساركوزي عبر إدارة السجن وخضع للتفتيش، حيث سيُطلب منه تسليم مقتنياته الشخصية، ثم سيقضي بضعة أيام في "حي القادمين الجدد" للملاحظة الطبية ولقاء الإدارة؛ بعدها سيُخصص له زنزانة فردية مساحتها حوالي 9 أمتار مربعة. ويشير النادي أيضاً إلى أن "لا سانتيه" يحتوي على قسم خاص بالأشخاص المعرضين للخطر، يُعرف شعبياً باسم "قسم الـVIP".
ومن الناحية النظامية، يوضح نادي الحقوقيين أن ظروف احتجازه تُنظَّم بموجب المواد R.213-18 وما يليها من "قانون السجون"، وهي ليست امتيازاً خارج الإطار القانوني، بل ترتيباً أمنياً يُطبَّق على فئات معينة، من بينهم الشخصيات الشهيرة، أو من شغلوا مناصب حساسة سابقاً، أو المعرضين لخطر الاعتداء.
وفي هذا الإطار، كشفت
لو فيغارو أنه رفض تقديم طلب للحصول على زنزانة فردية كما اقترحت عليه إدارة السجن، قائلاً: "على الإدارة أن تتحمل مسؤولياتها".
سجن لا سانتيه.. شاهد على تاريخ باريس
تصف صحيفة
أوست-فرانس سجن "لا سانتيه" بأنه السجن الوحيد المتبقي داخل حدود باريس، حيث دُشّن في 20 أغسطس 1867 في قلب التحولات العمرانية الهوسمانية، التي أعادت رسم ملامح العاصمة الفرنسية في القرن التاسع عشر.
صممه المهندس المعماري إميل فودرمير على قسمين: "القسم السفلي" الذي بُني على النموذج البانوبتيكي، السجن المركزي، بأربعة أجنحة تلتقي في نقطة مركزية تسمح بمراقبة الجميع، و"القسم العلوي" ذي التخطيط شبه المنحرف الأكثر تقليدية.

سجن لا سانتيه في باريس، ملخّص الدراسة التاريخية المكلّف بها من قبل الوكالة العامة للعقارات العدلية
وتوضح المؤرخة كارولين سوبّلزا في
ملخص للسجن كلّفته بها الوكالة العامة للعقارات العدلي أن المبنى كان في زمانه مختبراً لابتكارات جريئة: تدفئة مركزية، مراحيض فردية، حمامات، خدمة وجبات جماعية عبر شبكات تحت الأرض، ونظام اتصال هوائي للحراس شبيه بأنظمة المنازل البرجوازية؛ وهي حداثة أثارت استياء الرأي العام الفقير في تلك الحقبة.
وبين عامي 2014 و2019، خضع السجن لعملية تجديد شاملة جعلته أحد أكثر السجون تنظيمًا وحداثة في فرنسا. وهذا ما دفع السلطات إلى اختياره لاستقبال ساركوزي، نظراً لإمكانياته الأمنية والإدارية المتطورة، ولقربه من المؤسسات القضائية في العاصمة.
وتؤكد
التقارير الإعلامية الفرنسية أن هذا السجن، رغم سمعته التاريخية، ليس فندقاً فاخراً من فئة خمس نجوم كما قد يتخيل البعض. فالجدران تبقى جدراناً، والباب الحديدي يبقى باباً، والروتين اليومي يبقى قاسياً. تعيد الإجراءات الصارمة، والجداول الزمنية المحكمة، والقيود المفروضة كل سجين، بغض النظر عن مكانته السابقة، إلى واقع واحد لا مناص منه: هو الآن خلف القضبان.
نزلاء بارزون.. من دريفوس إلى كارلوس
لم يكن نيكولا ساركوزي أول شخصية بارزة تطأ قدماه هذا السجن. فقد استقبل "لا سانتيه" على مر التاريخ أسماء ارتبطت بمحطات مفصلية في الذاكرة الفرنسية. من بينهم الضابط ألفريد دريفوس، الذي مَرّ من هنا قبل نفيه إلى "جزيرة الشيطان" بعد إدانته بتهمة الخيانة العظمى عام 1894 بسبب أصوله اليهودية، قبل أن ينهض الكاتب إميل زولا للدفاع عنه في مقالته الشهيرة "إني أتهم".

الصفحة الأولى من صحيفة "لوروغ" الصادرة في 13 يناير 1898، وعنوانها الشهير «أنا أتهم…!» وهي الرسالة التي وجّهها إميل زولا إلى رئيس الجمهورية دفاعاً عن الضابط دريفوس المتهم بالخيانة (cnrs)
كانت قضية دريفوس، كما تذكر
المصادر التاريخية التي تستعرضها الصحف، شرارةً أشعلت انقساماً هائلاً في المجتمع الفرنسي بين عامي 1894 و1906، بلغ ذروته في مشهد "التجريد" من الرتب في المدرسة العسكرية بباريس وسط صيحات "الموت لليهود"، قبل أن يتم تبرئته وإعادته إلى الجيش بعد 12 عاماً.
ومن بين جدران هذا السجن أيضاً مر الشاعر غيوم أبولينير، الذي أوحى إليه احتجازه بكتابة قصيدة شهيرة عن بطء الزمن خلف الجدران، بعد أن تم الاشتباه بتورطه في سرقة لوحة "الموناليزا" الشهيرة.
وتذكر
أوست-فرانس أسماء أخرى مثل موريس بابون، وجاك مسرين، وكزافييه نِيل، وبرنار تابي، وباتريك بالكاني.
ومن بين "نزلاء السمعة" أيضاً إليتش راميريز سانشيز، المعروف عالمياً باسم "كارلوس"، الذي ارتبط اسمه بعملية خطف وزراء "أوبك" في فيينا عام 1975 وبسلسلة تفجيرات في ثمانينيات القرن الماضي؛ وقد اعتنق الإسلام خلال فترة سجنه لاحقاً، وتصفه
نيويورك تايمز بأنه حافظ على جرأته قبل محاكمته، حيث تم إدانته مؤبداً في فرنسا لقتل شرطيين ومخبر لبناني عام 1975، وارتبطت بعض هجماته بمحاولة الضغط للإفراج عن رفيقته ماغدالينا كوب، إلى أن تم اعتقاله في السودان عام 1994 وتسليمه إلى فرنسا.

بـ 3 كتب وعشر صور.. هكذا دخل ساركوزي زنزانة 9 م² (رويترز)
الكتب التي اختارها ساركوزي… رسالة من وراء القضبان؟
لم يكن اختيار نيكولا ساركوزي للكتب التي حملها معه إلى سجن "لا سانتيه" عشوائياً، بل جاء محمّلاً بدلالات رمزية عميقة، بحسب مصارد فرنسية. فقد حمل معه سيرة المسيح للمؤرخ جان-كريستيان بْتيفيس، ورواية "كونت مونت كريستو" لألكسندر دوما في جزئيها، وهي رواية كلاسيكية تروي قصة رجل أُدين ظلما قبل أن يخطط للانتقام واستعادة مكانته، في أحد أكثر أعمال الأدب الفرنسي تأثيرا.
وبحسب ما نقلته مجلة
كلوزر، فإن هذا الاختيار يعكس شعور الرئيس الفرنسي السابق العميق بالظلم، إذ يرى في شخصية إدمون دانتيس، بطل الرواية، صورة رمزية لمعركته القانونية المستمرة.
وتشير المصادر الفرنسية إلى أن ساركوزي اختار هذه الكتب تحديداً ليملأ وقته بالقراءة والكتابة، إذ يعتزم تأليف كتاب جديد خلال فترة سجنه يعرض فيه "رؤيته للأحداث" من وجهة نظره الشخصية، وفق مجلة
غلا، مستلهماً من شخصيات أدبية وتاريخية واجهت الاتهام والعزلة والمهانة.
هل يستطيع ماكرون منح العفو لساركوزي؟
رغم أن نيكولا ساركوزي قد لا يتمكن من تفادي دخول السجن في المدى المنظور، فإن الدستور الفرنسي يمنح رئيس الجمهورية حق منح العفو الفردي استناداً إلى المادة 17 منه، وفقاً لصحيفة
20 مينوت.
يخوّل هذا الحق للرئيس إصدار مرسوم يعفي المحكوم عليه من تنفيذ كامل العقوبة أو جزء منها، أو يخففها إلى عقوبة أقل قسوة، دون الحاجة إلى موافقة القضاء أو تبرير القرار علناً.
لكن هذه الصلاحية لا تُمارس تلقائياً، إذ يتوجب على المحكوم عليه أو محاميه أو أحد أقاربه تقديم طلب رسمي للعفو، يُحال بداية إلى وزارة العدل لدراسته قبل رفعه إلى مكتب الرئيس، الذي يبقى له القول الفصل في قبوله أو رفضه.
وفي حالة ساركوزي، يوجد عائق قانوني جوهري: لا يمكن منح العفو إلا بعد صدور حكم نهائي غير قابل للطعن. وبما أن استئنافه لا يوقف التنفيذ، فإن عليه إما انتظار صدور حكم نهائي أو التنازل عن استئنافه لتقديم طلب العفو.
يضاف إلى ذلك أن الرئيس إيمانويل ماكرون استخدم حق العفو مرة واحدة فقط منذ توليه الرئاسة في عام 2017، وهو ما يعزز الانطباع السائد بأنه رئيس "متحفظ" في منح هذا الامتياز، وفقاً لما أوردته 20 مينوت.