بكين تواجه ضغوط واشنطن بـ"رقائق إلكترونية وأوعية أرز"
على مدى سنوات، بنت الشركات التكنولوجية الصينية صعودها السريع على نموذج يقوم على استيراد التكنولوجيا الغربية وتطويرها وتحسينها، ما خلق حالة من التبادل المتكامل بين بكين والعواصم الصناعية الكبرى. 
لكن هذه العلاقة التي بدت مثالية تحوّلت إلى نقطة ضعف استراتيجية، حين بدأت الولايات المتحدة، في إطار مواجهة صعود منافسها الأكبر، بفرض قيود على تصدير المكوّنات الحساسة مثل الرقائق المتقدّمة والبرمجيات المتطورة. 
عندها أدركت الصين أنّ استمرار اعتمادها على الخارج لم يعد خياراً آمناً، لتتحوّل مسألة الاكتفاء الذاتي من مجرد هدف اقتصادي إلى ضرورة سيادية تمسّ أمنها القومي ومستقبلها التكنولوجي.
خطة خمسية جديدة لتعزيز السيادة الاقتصادية
منذ الخمسينيات، استخدمت بكين الخطط الخمسية كأداة مركزية لتوجيه اقتصادها. واليوم، تحوّل الهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي باعتباره ركيزة للسيادة الوطنية.
ووفقاً لصحيفة 
إلموندو، فإن الخطة الخمسية الخامسة عشرة تضع نصب عينيها تقليص الاعتماد على الولايات المتحدة عبر ضخّ استثمارات ضخمة في التصنيع المتقدّم والتقنيات المستقبلية مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الكمّية والتصنيع الحيوي.
وتتجه الأنظار في الصين اليوم إلى تفاصيل الخطة الخمسية الجديدة التي ستشكّل خارطة الطريق للسنوات الخمس المقبلة. فالصين، التي حافظت على نظام تخطيط مركزي لأكثر من سبعة عقود، نقلت أهدافها الاستراتيجية من بناء المصانع في خمسينيات القرن الماضي، إلى إصلاح الاقتصاد في الثمانينيات، ثم الانفتاح على العالم في العقد الأول من الألفية الجديدة.
أما اليوم، فإن الهدف المعلن أصبح تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي بوصفه ركيزة لنهضتها الاقتصادية وتعزيز مكانتها العالمية.
الاكتفاء الذاتي العلمي والتكنولوجي
وفقاً لتقرير مجلة 
نيتشر، اجتمع كبار قادة الصين في بكين هذا الأسبوع لرسم ملامح الخطة الخمسية الجديدة (2026-2030)، بهدف مضاعفة الاعتماد على الذات في العلوم والتكنولوجيا. 
وأعلن وزير العلوم والتكنولوجيا أنّ الحكومة ستزيد دعمها لتطوير الرقائق المتقدّمة، الذكاء الاصطناعي، والبحث العلمي الأساسي، ضمن حملة لتجاوز الاختناقات التقنية التي فرضتها واشنطن.
ويُتوقّع أن يُخصّص جزء كبير من الموارد لكسر الاحتكار الأميركي في مجال أشباه الموصلات، إذ ترى بكين أنّ العقد الحالي حاسم لتحقيق "الاستقلال التكنولوجي الكامل" بحلول 2035. 
كما سيتم وضع إطار سياسي شامل لتطوير الذكاء الاصطناعي وتكامل تطبيقاته في مختلف القطاعات الاقتصادية، مع التركيز على تقنيات 6G والروبوتات البشرية والتقنيات النظيفة.
أما صحيفة 
أساهي شيمبون اليابانية، فأشارت إلى أنّ تسريع الاستقلال العلمي يُعدّ محوراً رئيسياً في الخطة الاقتصادية الجديدة، وأنّ بكين ترى في الابتكار المحلي وسيلة لتعزيز أمنها القومي الاقتصادي في مواجهة القيود الغربية.
الأمن الغذائي.. جبهة الاكتفاء الذاتي الثانية
يمتدّ التحوّل الصيني أيضاً إلى جبهة الغذاء. فبحسب تقرير 
تشاينا أوبزرفرز، أطلقت سبع وكالات حكومية في يونيو 2025 خطة طموحة لتحديث القطاع الغذائي رقمياً، بهدف تقليص الاعتماد على الواردات وضمان الأمن الغذائي الوطني.
ورغم أنّ الصين تمتلك أقل من 10٪ من الأراضي الزراعية في العالم، فإنها تُنتج ربع الحبوب العالمية وتُطعم خُمس سكان العالم. لكن التحديات تتزايد، من بينها تراجع الأراضي الصالحة للزراعة، التلوث، تغيّر المناخ، وانكماش اليد العاملة الريفية. 
كما أن نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي تراجعت من 93.6٪ عام 2000 إلى 65.8٪ عام 2020، وقد تنخفض إلى أقل من 59٪ بحلول 2030.
لذلك تراهن بكين على الزراعة الذكية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، البلوكتشين، وإنترنت الأشياء لتتبع الإنتاج وضمان السلامة الغذائية. ويهدف المخطط إلى رقمنة 80٪ من كبرى الشركات الغذائية بحلول 2027، وصولاً إلى التكامل الكامل في 2030. كما ترى الحكومة أن الأتمتة ستُعوّض تقلّص عدد المزارعين مع ارتفاع أعمارهم، ما يجعل الأمن الغذائي جزءاً من استراتيجية وطنية شاملة للأمن القومي.
بين الرقائق الإلكترونية وأوعية الأرز، تخوض الصين معركتين متوازيتين: معركة الاستقلال التكنولوجي ومعركة الأمن الغذائي. وكلاهما ينبع من قناعة استراتيجية ترسّخت بعد الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب، بأن الاعتماد على الخارج لم يعد خياراً آمناً. لذا فإن بكين تعيد بناء نموذجها الاقتصادي حول مفهوم "الاكتفاء الذاتي" بوصفه درعاً وطنياً في مواجهة الضغوط الدولية، وسلاحاً اقتصادياً لبسط نفوذها العالمي خلال العقد المقبل.