سياسة

"اختفاء رقمي".. كيف أعاد "القُصر" رسم خريطة التهديد في فرنسا؟

نشر
blinx
دخلت فرنسا، وفقا لتحقيقات صحيفة لوموند، مرحلة جديدة من التهديد الإرهابي تختلف جذريا عن صورة التهديد التي سادت في العقد الماضي، إذ باتت مخاطر اليوم نابعة من أفراد شبان، بعضهم قُصر، يتعرضون لتيار من الدعاية المتطرفة عبر شبكات التواصل ومنصات ألعاب الفيديو وخدمات الرسائل المشفرة، بعدما كانت تُبنى على شبكات منظمة ذات قيادة مركزية مثل تنظيم داعش أو القاعدة.
تكشف قصة ٣ فتيات تابعتها صحيفة لوباريزيان عن هذا التحوّل: شابات فرنسيات، 18–21 عاما، معزولات، منغمسات بمحتوى متطرف على تيك توك وسناب وتلغرام.
تملك إحداهن حسابا بـ20 ألف متابع وتحولت نيّتهن إلى مخطّط هجوم انتحاري على قاعة أو حانة بباريس، بتبادل رسائل مشفرة والبحث عن "العتاد"، حتى أنّ إحداهن قالت بحسب تسجيلات الاستخبارات: "أريد أن أفجّر كل شيء… أريد أن أُكرّم بن لادن".

عصر الإرهاب المستوحى

تشير لوموند إلى أنّ فرنسا قد دخلت فعلا "عصر الإرهاب المستوحى"، حيث لم يعد منفذو الهجمات مرتبطين بقيادة مركزية أو خلايا مهيكلة، بل يتحركون بوسائل بسيطة ومتاحة.
أظهرت البيانات أنّ ثلاثة أرباع الهجمات منذ عام 2020 ارتكبت بأسلحة بيضاء؛ وأن ثلثي الجناة لم يكونوا معروفين لدى الأجهزة الأمنية من قبل، ولم يظهروا في أي سجلات أو ملفات.
هذا "الاختفاء الرقمي" يجعل من الصعب على الاستخبارات تتبعهم أو استباق خطواتهم، خصوصا أن كثيرا منهم يجيدون محو آثار محادثاتهم ويفهمون ديناميكيات المنصات الافتراضية.
وعلى الرغم من أنّ هذا النوع من التهديد يبدو أقل فداحة من عمليات 2015 التي نفذتها مجموعات مسلحة مدربة جلبت أسلحة حربية من سوريا، فإنّ تأثيره على المجتمع والسياسة في فرنسا كان مدمرا بنفس القدر.

رياح التطرف تهب على الأصغر سنا

بحسب تقرير لوموند، تقل أعمار 70% من الموقوفين في قضايا مخططات متطرفة منذ 2023 عن 21 عاماً، ومن بينهم قصر في سن 15 و16 عاما خضعوا لإجراءات "ميكاس" التي تشمل الإقامة الجبرية داخل المنزل. ومنذ مطلع 2025، تم إحباط 6 مشاريع اعتداءات تعود أعمار ضالعين فيها إلى ما بين 17 و22 عاما.
وتؤكّد الخبيرة لورين رونو في مقابلة مع منصة The Conversation أنّ الزيادة اللافتة في عدد المراهقين والشباب المنخرطين في مخططات العنف ليست محصورة في فرنسا، بل هي ظاهرة أوروبية واضحة. وتقول إنّ الأعمار المشاركة في مشاريع الهجمات: 15 شابا في 2023، 19 في 2024، و17 في 2025، ما يعكس اتجاها تصاعديا مقلقا.
أما الباحث ماتيو كولان، الخبير لدى اليونسكو، فيُشير في مقابلة مع صحيفة 24 Heures السويسرية إلى أنّ نحو ثلث الاعتقالات في قضايا الإرهاب على مستوى أوروبا في عام 2024 شملت قصرا أو شبانا في مطلع العشرينيات.

الإرهاب المستوحى.. كيف أعاد الشباب رسم خريطة التهديد في فرنسا؟ (أ.ب)

ويضيف أنّ هذا الرواج بين الأصغر سنا يعني هجمات أكثر اندفاعا، وأقل قابلية للتوقع، وبفواصل زمنية قصيرة جدا بين التأثر بالدعاية والانتقال مباشرة إلى التخطيط أو التنفيذ.

كيف يتصرّف هؤلاء الشباب؟

بحسب لوموند، فإنّ الهجمات المعاصرة في فرنسا تتميز بسمتين أساسيتين:
  • تنفيذ فردي بالكامل: لم تعد المخططات تتطلب خلايا منسقة كما في سنوات 2015–2016، بل تُنفذ غالباً على نحو منفرد.
  • وسائل بدائية: السكاكين والأسلحة البيضاء تشكل 75% من أدوات الهجوم.
ويضيف كولان أنّ الفترة الفاصلة بين بداية التعرض للدعاية المتطرفة والرغبة في "المرور إلى الفعل" كانت قبل عقد من الزمان تزيد عن عام كامل، لكنها اليوم باتت تصل إلى أسابيع قليلة أحيانا.

شبكات التواصل.. منصات تسرع الاحتراق الذهني

بحسب لوموند، يتميز الشباب المرتبطين بهذه الهجمات بقدرة استثنائية على استخدام الإنترنت لإخفاء آثارهم، وعلى بناء صلات مع متطرفين آخرين عبر مجموعات مغلقة.

الإرهاب المستوحى.. كيف أعاد الشباب رسم خريطة التهديد في فرنسا؟ (أ.ب)

وتشرح الخبيرة رونو أنّ منصات مثل تيك توك تصنع "فقاعة خوارزمية" تسمح للمحتوى المتطرف بالهيمنة على تجربة المستخدم خلال ساعات. فالمراهق لا يحتاج سوى لمشاهدة عدة فيديوهات قصيرة ليعاد توجيهه تلقائيا نحو المزيد من المحتوى الجهادي.
ويضيف كولان في 24 Heures أنّ الشبكات الاجتماعية أصبحت "مُسرّعا" لعملية التجنيد، وأنّ المجموعات الإرهابية تبذل جهدا منظما لاستهداف الشباب عبر رسومات، موسيقى قتالية، وإعادة تمثيل معارك على منصات ألعاب مثل روبلوكس بهدف تحويل المراهقين إلى مقاتلين افتراضيين وتطبيع مشاهد القتل لديهم.

لماذا ينجرّ هؤلاء نحو الإرهاب؟

يتفق كولان ورونو على أنّ العملية متعددة العوامل وليست ذات مسار واحد. تشمل العوامل:
  • هشاشة نفسية، اضطرابات أو صدمات غير معالجة
  • مشكلات في الهوية أو الانتماء
  • شعور بالإقصاء أو التمييز أو العنصرية
  • ارتباطات بعوالم الجريمة الصغيرة
  • تأثير النزاعات العالمية مثل حرب غزة ودوافع "الانتقام" أو "العدالة"
إلى جانب كل ذلك، تعد العزلة الاجتماعية وغياب الرقابة الأسرية عاملا محوريا. فكثير من الآباء غير قادرين على متابعة الحياة الرقمية لأبنائهم أو التفاعل معها. والأسوأ أنّ الفضاءات التي كانت سابقا تشكل نقاط التقاء للتطرف، مثل المساجد المتشددة أو مجموعات سياسية، انتقلت كليا إلى الإنترنت، فأصبحت غير مرئية.

حمل التطبيق

© 2025 blinx. جميع الحقوق محفوظة

© 2025 blinx. جميع الحقوق محفوظة