سياسة

طهران على شفا العطش.. عاصمة تنتظر المطر تحت تهديد الإجلاء

نشر
blinx
تجد طهران نفسها اليوم تحت رحمة السماء بعدما قدرت السلطات أنّ خزانات العاصمة لا تحتوي سوى على 9 أيام من مياه الشرب.
في هذا الشأن، وجه الرئيس مسعود بزشكيان تحذيرا: إذا لم تهطل الأمطار قريبا، فقد تضطر الحكومة إلى إخلاء مدينة يعيش فيها 10 ملايين شخص، وفق ما نقلته POLITICO Pro.
ما يجعل هذا التحذير أكثر خطورة هو أنّ الأزمة ليست محصورة في العاصمة وحدها، إذ لا تتجاوز مخازن مدينة مشهد، ثاني أكبر مدن إيران، 3% من طاقتها، بينما أعلنت وزارة الطاقة أنّ 19 سدا من أكبر السدود في البلاد تقف على حافة الجفاف.
كما تحدث علماء الآثار عن استنزاف مقلق للمياه الجوفية تحت مدينة برسيبوليس التاريخية، إلى درجة قد تهدد بانهيار أجزاء من موقع يعود إلى آلاف السنين.
في خلفية هذا المشهد المتوتر، تتداخل أخطاء الإدارة، والاضطرابات المناخية، والخلافات السياسية، لتولد سؤالا لم تعد السلطات قادرة على تجاهله: هل يمكن أن تكون الدولة مجبرة خلال أيام على التفكير في إجلاء واحدة من أكبر عواصم الشرق الأوسط؟ و ما هو البديل؟

أسباب الجفاف

تتفق التقارير المتخصصة على أنّ ما يحدث في طهران ليس مفاجئا، بل حصيلة عقود من السياسات المائية غير المدروسة.
فبحسب The Telegraph، سمح صانعو القرار للعاصمة بالنمو بوتيرة لا تتوافق مع قدرتها الطبيعية على توفير المياه، إذ توسعت الضواحي على حساب الموارد الجوفية، واستُنزفت طبقات المياه بشكل يفوق معدلات تجددها.
ويشير خبراء إلى أن التنمية العمرانية اتخذت شكلا عشوائيا، فاختفت المساحات القابلة لتغذية المياه الجوفية، وتآكلت الأراضي الزراعية التي كانت تشكل صمام أمان مائيا للمنطقة.
اعترف الرئيس بزشكيان نفسه بأن النظام لم يعد يمتلك حلولا واقعية، وقال في خطاب غاضب أمام البرلمان: "بعض الناس يخرجون ليقولوا إن الحكومة لديها القدرة على إصلاح الأزمة.. إذا كنتم تظنون ذلك، فسأسلمكم كل الصلاحيات.. تعالوا وأصلحوها".
هذا الإقرار بالعجز يعكس فداحة الوضع، إذ إنّ السدود الرئيسية التي تغذي طهران تراجعت إلى مستويات غير مسبوقة. لم يعد يحتوي سد ماملو سوى إلا على 18 مليون متر مكعب، وسد لار على 14 مليونا، بينما أعلن مدير شركة مياه طهران أنّ ما تبقى خلف سد كرج لا يكفي لأكثر من أسبوعين، بحسب تقرير NCR-Iran.
أما الخبير البيئي كاوه مدني، الذي سبق أن أُجبر على مغادرة البلاد بعد اتهامات سياسية مرتبطة بملف المياه، فقال لـThe Telegraph إن "المرحلة الحالية لا تسمح بإيجاد حلّ هندسي أو إداري.. لم يعد أمام السلطات سوى إدارة الطوارئ، وطلب تقليل الاستهلاك، بل وربما مغادرة بعض السكان لتخفيف الضغط".

جهود خفض الاستهلاك

أمام هذا الواقع، بدأت طهران تطبيق إجراءات تقشف مائي قاسية لمحاولة إطالة عمر الإمدادات. أغلقت بعض الجامعات حمامات السكن الطلابي، وناقشت السلطات خططا لخفض ضغط المياه ليلا إلى الحد الأدنى، وهو ما يعني انقطاعا فعليا في بعض الأحياء، بحسب The Telegraph.
إلا أنّ أثر هذه الإجراءات يتوزع بشكل غير عادل بين طبقات المجتمع، ففي حين يشكو سكان شوش من انقطاع شبه كامل وشراء دلاء لتخزين ما يتسرب عبر الحنفيات، تشير شهادات من تجريش ونياروان إلى أن سكان الأحياء الميسورة بالكاد يلاحظون انخفاض الضغط.
هذا التفاوت كان أحد دوافع الاحتجاجات التي اندلعت في جامعة الزهراء، حيث خرجت الطالبات بعد فرض قيود إضافية على الاستخدام.
رغم ذلك، يتفق الخبراء على أن تقليل الطلب لن يكفي وحده. فالهدر في شبكات التوزيع القديمة يبقى العامل الأكبر، إذ يعتقد مهندسون أن إصلاح التسريبات قد يوفر كميات تكفي ملايين السكان، لكن غياب التمويل وضعف إدارة البنية التحتية يعطلان أي حل حقيقي.

البعد الإسرائيلي.. كيف دخلت الجغرافيا السياسية على خطّ العطش؟

مع تفاقم الأزمة، أصبح ملف المياه جزءا من التوتر الإيراني-الإسرائيلي، إذ نقلت The Telegraph أن إسرائيل استغلت موجات الجفاف لإرسال رسائل سياسية مباشرة للإيرانيين، كان أبرزها عندما عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، "توفير تكنولوجيا تدوير المياه فور تحرر إيران"، في إشارة واضحة إلى دعواته المتكررة لتغيير النظام.
هذا الاستغلال السياسي ليس جديدا، فكاوه مدني، الذي حاول لسنوات التحذير من "إفلاس مائي" وشيك، واجه حملة اتهامات من دوائر أمنية بأنه "عميل لـMI6 أو الموساد" هدفه تدمير الزراعة الإيرانية ودفع الريف نحو الفوضى، قبل أن يضطر إلى مغادرة البلاد.
وخلال الحرب التي دامت 12 يوما في يونيو الماضي، تضرر خط مائي رئيسي في تجريش نتيجة غارة إسرائيلية، ما أدّى إلى انقطاع المياه في المنطقة. ولم يعرف إن كان ذلك الاستهداف مقصودا أم نتيجة جانبية، لكن مدني اعتبره "خرقا للقانون الدولي".

هل تستطيع طهران تطبيق نموذج كيب تاون لتجنّب "يوم الصفر"؟

مع تصاعد التحذيرات من احتمال إجلاء العاصمة، برزت مقارنة متزايدة بين ما تواجهه طهران اليوم وما نجحت كيب تاون في تجاوزه عام 2018 عندما اقتربت من لحظة "يوم الصفر".
يشير تقرير Iran International إلى أنّ المدينة الجنوب أفريقية تمكنت من تفادي الانهيار عبر استراتيجية شديدة الانضباط، اعتمدت على الشفافية اليومية وتقليص الاستهلاك إلى خمسين لترا للفرد، وفرض رسوم مرتفعة على الاستخدام المفرط، وتوسيع إعادة تدوير المياه، إلى جانب دعم الأسر الفقيرة. وبفضل هذه الخطوات، انخفض الاستهلاك هناك بأكثر من النصف خلال عامين.
لكن تطبيق هذا النموذج في طهران يبدو أكثر تعقيدا. فمتوسط الاستهلاك في العاصمة الإيرانية يتراوح بين 250 و300 لتر للفرد يوميا، ونحو ثلث المياه يتسرب في شبكات متقادمة قبل أن يصل إلى المنازل.
ويرى الخبراء أن بعض ملامح النموذج الجنوب أفريقي تبقى قابلة للتطبيق إذا تحركت السلطات سريعا لإصلاح الشبكات، وفرض أسعار واقعية تشجع على الترشيد، وتوسيع إعادة استخدام المياه، وتوحيد إدارة القطاع تحت جهة واحدة مسؤولة.
لكن التقرير يحذر في المقابل من أنّ نافذة الحلّ ضيقة جدّا، وأنّ طهران لن تستطيع تجنب "يوم الصفر" ما لم تبدأ بإجراءات جذرية تعيد صياغة علاقتها بالمستهلكين وبالموارد نفسها.

سيناريو الإجلاء.. أسئلة بلا أجوبة وخطة غير موجودة

بحسب POLITICO Pro، صرّح الرئيس بزشكيان بأن السيناريو قد يصبح ضروريا إذا لم تهطل الأمطار قريبا، مشيرا إلى أن السدود وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ ٦٠ عاما.
لكن رغم ضخامة التحذير، لا توجد أي خطة معلنة حول المكان الذي يمكن أن يذهب إليه ملايين السكان، أو كيفية نقلهم، أو المدن القادرة على استقبالهم، أو حتى مصادر المياه التي ستخدمهم هناك.
تعترف وسائل إعلام مقربة من الحكومة بأن وزارة الطاقة لا تمتلك استراتيجية واضحة لتعويض النقص، وأن خطاب السلطات يركز أكثر على "توفير 10 إلى 20٪ من الاستهلاك المنزلي" بدل معالجة الهدر في الشبكات القديمة أو بناء مصادر جديدة.
ويصف خبراء سيناريو الإجلاء بأنه "غير قابل للتطبيق عمليا"، بينما تتساءل مجموعات تجارية عن كيفية نقل مدينة بأكملها: أين سيعيش السكان؟ أين سيعملون؟ كيف سيدرس الأطفال؟ ومن أين ستأتي المياه في المدن المضيفة وهي نفسها تعاني من الجفاف؟
يبدو الحديث عن إخلاء العاصمة أقرب إلى محاولة لإدارة التوقعات، وإعداد الرأي العام لاحتمال حدوث اضطرابات إذا جفّت الصنابير في ديسمبر. فالسلطات، وفق مراقبين، تسعى إلى إلقاء المسؤولية على ظواهر طبيعية خارجة عن السيطرة، بدل مواجهة إرث طويل من سوء الإدارة ونقص الاستثمار في البنية التحتية.

حمل التطبيق

© 2025 blinx. جميع الحقوق محفوظة

© 2025 blinx. جميع الحقوق محفوظة