أمن
.
"لا يمكنني التحدث بصوت عالٍ جدًا وإلا سيأخذون هاتفي بعيدًا.. لا تتصلوا بي لأن هذا سيطلق رنين الهاتف، وسيسمعونه ويقبضون عليّ.. من فضلكم أخبروا وكيل السفر أن يرسل الأموال لليبيا" بهذا الصوت المذعور والمنخفض أرسل الشاب الباكستاني بابار شابير ( ١٩ عاما) آخر رسائله الصوتية من مدينة طبرق الليبية لعائلته في قرية جوجرات الصغيرة، في مقاطعة البنجاب الشمالية.
لم تكن ليبيا وجهة شهيرة للباكستانيين الراغبين في الوصول لأوروبا. لكنها بدأت باكتساب زخم كبير نحو عام 2018 وهو العام الذي خاض فيه بابار مغامرته في محاولة للعبور لإيطاليا.
مسار رحلة بابار بدأ من مطار لاهور لدبي ومن ثم للكويت فتركيا، ليصل نهايةً لليبيا. ولم يكن الشاب بحاجة للتسلل عبر أي من تلك الحدود بشكل غير نظامي، فقد سافر وابن عمه مظهر حسين بتأشيرة دخول رسمية لليبيا، بعد أن قاما بدفع مبلغ 6,500 دولار عن كل واحد منهما لمهربين في باكستان. هذا الأمر دفع نشطاء في باكستان لاتهام مسؤولي الهجرة في مطار لاهور بالفساد لتسهيلهم خروج أولئك المهاجرين وعدم مسائلتهم عن سبب سفرهم لليبيا، بحسب صحيفة نيويورك تايمز.
٥ سنوات ومازال طريق الهجرة غير الشرعي لأوروبا لديه شعبية بين الشباب الباكستاني
بعد وصول بابار لليبيا، وجد نفسه عالقاً في قبضة المهربين الذين أساؤوا معاملته وقاموا بضربه وعرضوا رفاقه للتعذيب. واضطر أهل الشاب لإرسال ألف دولار إضافية للمهربين جمعوها بشق الأنفس، لكي يتمكن من ركوب قارب الهجرة المتجه لإيطاليا. ولكن سرعان ما وصل العائلة بعدها خبر فقدانه في عرض البحر المتوسط بعد أن غرق 90 مهاجر على متن القارب وكانت غالبية الركاب من باكستان.
مضت ٥ سنوات ومازال طريق الهجرة غير الشرعي لأوروبا لديه شعبية بين الشباب الباكستاني، على الرغم من حوادث غرق المهاجرين الباكستانيين التي هزت المجتمع الآسيوي. ففي شهر فبراير الماضي، غرقت البطلة الرياضية الباكستانية شهيدة رازا (29 عاما) بالقرب من شواطئ إيطاليا بعد أن حاولت الهجرة لأوروبا سعياً في تأمين رعاية طبية لابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات. لاعبة كرة القدم والهوكي في المنتخب الوطني كانت من ضمن أكثر من عشرين ضحية من باكستان لقو مصرعهم على ذلك القارب.
تكلفة الرحلة اليوم وصلت لمبلغ 2.2 مليون روبية، أي ما يعادل 7,500 دولار، وفقاً لوالد أحد الشبان الذي لقوا مصرعهم في أكبر حادثة غرق لمهاجرين باكستانيين أمام السواحل اليونانية، حيث توفي أكثر من 300 مهاجر باكستاني على متن قارب صيد مهترئ انطلق من طبرق نحو إيطاليا. وقد أعلنت الحكومة الباكستانية الحداد العام بسبب تلك الفاجعة ووعدت بملاحقة المهربين.
توفي أكثر من 300 مهاجر باكستاني على متن قارب صيد مهترئ
"لم يعد لدينا شيء الآن. قمنا ببيع الأرض التي كانت لدينا لجمع المال لتذكرته لأوروبا. والداي طاعنان في السن وليس بإمكاني العثور على عمل ثابت. وكأننا خسرنا كل شيء عندما خسرناه" هكذا عبر أظهار حسين شقيق الشاب الغارق مظهر عن حالهم، بينما انهمكت العائلة في تصفح صور جثث الغرقى الذين انتشلتهم قوات خفر السواحل أملاً في أن يكون بابار أحد الناجين.
مبلغ الرحلة البالغ أكثر من 13 ألف دولار للشابين يعد رقماً فلكياً، فهو يبلغ تسع أضعاف نصيب الفرد الباكستاني من الناتج القومي الإجمالي. ويحاول المهاجرون وطالبوا اللجوء توفير هذا المال عبر بيع أي أصول للعائلة والاستدانة من المعارف والأصدقاء والأقارب، أملاً في أن يتمكنوا من السداد ومساعدة عائلاتهم بعد الوصول لأوروبا.
عائلات المفقودين يصفون رغبة أبنائهم بالهجرة بغسيل الدماغ، كالموظف المتقاعد شاهد محمود (60 عام) الذي أخبر وكالة رويترز بصوت يملأه الأسى "حاولت إيقاف ابني، أخبرته أن ينسى الفكرة برمتها. لكن وكيل السفريات غسل دماغه بالكامل وأخبره بأنه بإمكانه الوصول لأوروبا خلال يومين أو ثلاثة". كان ابن شاهد، شهريار سلطان (25)، أحد المفقودين في حادثة غرق القارب أمام اليونان الأربعاء الماضي.
يتفاقم الطلب على الهجرة في ظل أسوأ أزمة اقتصادية واضطرابات سياسية تعصف بباكستان
وقد تم انقاذ نحو 104 راكب من أصل أكثر من 750، وعثر خفر السواحل على 78 جثة غارقة حتى مساء يوم الأحد عندما أعلنت السلطات اليونانية انتهاء عمليات البحث.
ووفقاً لشهادات بعض الناجين، فقد أُجبر الركاب الباكستانيون على المكوث بشكل مزدحم في بطن السفينة بدلاً من سطحها (وهو المكان الأكثر خطراً في حال غرق القارب)، ولاقى الركاب الباكستانيون سوء المعاملة عند محاولتهم طلب ماء الشرب أو الفرار من السفينة.
"النرويج الصغيرة" و"بريطانيا الصغيرة" هي بعض الأسماء التي أطلقها السكان المحليون على بعض القرى الزراعية الباكستانية التي هاجر منها العمال بأعداد كبيرة للخارج منذ السبعينات، حينما كانت الهجرة القانونية متاحة لمختلف المناطق حول العالم، ومنها الخليج.
مباني القرى الريفية القديمة كانت مبنية بالطوب اللبني والمحاطة بحقول القمح والأرز، ولكن تم استبدال بعضها بشكل متزايد بقصور مبهرجة وبلاط ملون أنشأها أصحابها من أموال أقاربهم وأبنائهم العاملين في الخارج، حيث إن 30% من الأسر المحلية تلقت حوالات من الخارج في عام 2014، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز.
أصبحت هذه المنازل بمثابة لوحة إعلانات عامة للدعوة للهجرة كوسيلة للهروب من الجوع والفقر المدقع والاضطهاد والبحث عن سبيل لتوفير الحياة الكريمة لعائلات الراغبين بالسفر للخارج. الصحيفة الأميركية تقول بأن الأمر أشبه "بالتنويم المغناطيسي" للشباب على وجه الخصوص.
في العام الجاري، يتفاقم الطلب على الهجرة في ظل أسوأ أزمة اقتصادية واضطرابات سياسية تعصف بباكستان منذ عقود، حيث توقف النمو وارتفع معدل التضخم وزاد شح العملة الأجنبية والمواد الغذائية الأساسية. بينما اضطرت المصانع لتسريح الملايين من عمال النسيج لأن ديون البلاد الخارجية الكبيرة جعلتها غير قادرة على تحمل تكاليف تشغيل الكهرباء وتشغيل الآلات والمصانع.
ضيق الحال دفع محمد تاحير، الذي فقد وظيفته في مصنع للنسيج في مدينة مولتان قبل سبعة أشهر، للتفكير في الانتحار "لأنه لم يعد يستطيع تحمل رؤية أسرته تنام ليلة بعد ليلة دون عشاء" بحسب وكالة أسوشيتد برس.
في نفس الوقت، تضاءلت طرق اللجوء الآمنة والهجرة المشروعة لأوروبا حتى أصبحت أمراً شبه مستحيل على سكان دول العالم الثالث على وجه الخصوص. تأثرت العمالة الباكستانية المهاجرة أيضاً بالمبادرات الخليجية لتقليل الاعتماد على العمالة الوافدة وتوفير فرص العمل لمواطني تلك الدول، حيث تضاءل الطلب على الأيدي العاملة المتعلمة أو غير المتعلمة من باكستان الذي يقطنه 220 مليون نسمة.
لذلك، يدفع اليأس والإحباط الشديدين من ظروف الحياة القهرية آلاف الشباب والشابات الباكستانيين للبحث عن مهرب من نكد العيش بأي ثمن كان. وتشكل ليبيا وتركيا أشهر نقاط التجمع والانطلاق بالهجرة البحرية لإيطاليا واليونان.
لكن خفر السواحل الليبي يتعاون بشكل وثيق مع نظرائه الأوروبيين ويتلقى التدريب والمساعدات من الاتحاد الأوروبي لإحباط ومنع قوارب الهجرة من الوصول لشواطئ القارة العجوز. هذا الأمر يدفع قوارب الهجرة لسلك طرق أكثر خطورة وإطفاء أجهزة تحديد المواقع الجغرافية على متن السفن للتواري عن الأنظار وتجنب أن يقع الركاب في أيدي السلطات الليبية والتي تقوم بوضعهم في معسكرات اعتقال سيئة السمعة طالتها اتهامات الأمم المتحدة بالتعذيب والضرب والاستغلال.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة