أمن
.
"الله مع جنين. الله رب فلسطين. ولتذهب إسرائيل للجحيم"، صدرت هذه العبارات من قلب قاعدة عسكرية إسرائيلية في الجنوب على لسان مجموعة من الجنود صغار السن المتحدثين باللغة العربية. أفراد الجيش كانوا في زيهم العسكري وتظهر من خلفهم طائرة محلقة في السماء وقت التقاط هذا المقطع الذي أثار عاصفة من الاحتجاجات في إسرائيل.
"يجب ألا يرتدي هؤلاء الجنود الزي الرسمي لدقيقة أخرى. على رئيس الأركان طردهم من الخدمة فوراً وأن يحقق معهم بتهمة دعم الإرهاب"، هكذا سارع وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير لشجب "المقطع الصادم" على حد تعبيره.
صوّر الجنود من أبناء الطائفة الدرزية هذا الفيديو بعد اقتحام الجيش الإسرائيلي مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، يوم ١٩ يونيو، وتفجير الجماعات الفلسطينية المسلحة مدرعة إسرائيلية وإصابة ٧ جنود وإلحاق الأضرار بعدة مركبات وطائرة أباتشي.
هذا المقطع المصور أعاد للأذهان مقاطع أقدم تُظهر ترديد الجنود الإسرائيليين من الطائفة الدرزية أغنية "أنا دمي فلسطيني" للفنان محمد عساف، بينما يقودون مركبات عسكرية مصفحة.
فما دلالة ذلك على علاقة الدروز التاريخية بالدولة الإسرائيلية، والتي وصل بعضهم لرتب عالية كجنرالات ووزراء؟
غسان عليان جنرال برتبة لواء في الجيش الإسرائيلي كان أول مسؤول غير يهودي عن لواء جولاني لجنود النخبة في حرب غزة عام 2014، وأصيب حينها في كمين لكتائب القسام العسكرية في مخيم جباليا. اختير اللواء الدرزي بعدها ليصبح مسؤولاً عن "وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق" وهي الوحدة العسكرية المسؤولة عن إدارة الشق المدني من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في الضفة، ما يجعله الحاكم الفعلي للضفة.
عليان ليس حالة استثنائية للقاعدة، فهناك العشرات من الدروز الإسرائيليين الذين خدموا في الجيش والحكومة وشغل بعضهم مناصب هامة كأعضاء في الكنيست، ووزراء للدولة. أحد أبرز هؤلاء أيوب قرا الذي كان وزيراً للاتصالات حتى عام 2019 ونائباً في الكنيست عن حزب الليكود اليميني لأربع فترات بين عامي 1999 و2021.
طائفة الدروز تشكل نحو 1.6% من سكان إسرائيل بواقع 150 ألف شخص، ويعيش أغلبهم في جبل الكرمل ومرتفعات الجولان والجليل.
تاريخياً، شجّع المجتمع الدرزي على الاندماج وترسيخ الروابط مع القوى الحاكمة والجماعات المهيمنة في البلدان التي يعيشون فيها، لأسباب أيديولوجية وعملية على حد سواء كتجنب الاضطهاد الذي عانوا منهم على مدار قرون. لذلك، وبعد تأسيس إسرائيل، أصبحت الخدمة العسكرية الإلزامية مفروضة على أبناء طائفة الدروز بينما يُعفى منها العرب من المسلمين والمسيحيين.
لم يقبل الجنسية الإسرائيلية حتى العام ٢٠٢٣ سوى 20% فقط من دروز الجولان. أ ف ب
مشاركة الدروز في الجيش الإسرائيلي في مختلف الحروب بعد 1948 منحتهم مكانة خاصة وعُرّفوا بـ"إخوة في السلاح"، تمييزا لهم عن الأقليات الأخرى غير اليهودية.
لكن على الرغم من ذلك، يشكو قادة الطائفة الدرزية من ضعف تمثيلهم في المجتمع، معتقدين أن ولاءهم للدولة لم يكسبهم مكانة متساوية مع اليهود عندما يتعلق الأمر بحقوق السكن، وتوصيل البنية التحتية، والسلامة الشخصية، ومستويات التعليم.
أما دروز مرتفعات الجولان المحتلة، والبالغ عددهم 23 ألفاً، فيرفضون الجنسية الإسرائيلية وأي رموز مرتبطة بالدولة ويقاطعون الانتخابات المحلية، محاولين المحافظة على روابطهم العائلية والأكاديمية والعملية مع سوريا. حتى بعد اندلاع الحرب الأهلية السورية وضعف وانقطاع هذه الروابط، لم يقبل الجنسية الإسرائيلية حتى العام ٢٠٢٣ سوى 20% فقط من دروز الجولان.
"صرخت بأنني درزي، ظننت أنهم ربما سيتوقفون عن ضربي. لكنهم لم يتوقفوا" هكذا أفاد الشاب شافي حمود، 27 عامًا، حول تعرضه للضرب المبرح من قبل العديد من الشبان الحريديين (المتدنيين) في جبل ميرون شهر مايو الماضي، فقط لأنهم سمعوه يتحدث العربية.
حمود جاء للمنطقة للعمل كحارس أمن خلال احتفالات لاك بعومر اليهودية، تقاضى الشاب الدرزي وزملائه من غير اليهود نصف أجر العمال اليهود المتدينين. ولم تشفع له هويته كدرزي أي "عربي جيد" في نظر المجتمع الإسرائيلي، من أن تُكسر يده من شدة الضرب، واحتياجه علمية جراحية.
"أعزائي الدروز، استفيدوا جيدا من الساعات العشر القادمة. هذه هي الساعات الوحيدة التي يتذكرك فيها المجتمع اليهودي ويراك". هكذا كتب أستاذ العلوم السياسية الإسرائيلي الدرزي، سليم بريك، باستهزاء على فيسبوك صباح احتفالية يوم الذكرى الإسرائيلي (شهر مايو) حين تقوم القيادات السياسية والعسكرية بتكريم وتذكر الجنود الذين سقطوا في المعارك المختلفة.
الدروز الإسرائيليون يقولون "عندما نرتدي الزي العسكري يعاملوننا بشكل جيد. وبعد انتهاء خدمتنا العسكرية نصبح عرب قذرين. وينسوا بأننا قمنا بحمايتهم" على حد تعبير الشاب الدرزي هشام أسعد، المجند في الجيش.
فالجيش الإسرائيلي يستقطب الشباب الدروز بوعود مثل اكتساب مكانة اجتماعية ومكافآت عينية مثل منح قطعة أرض لبناء منزل لكل درزي يخدم في الجيش. لكن المجتمع الدرزي العام يعاني من التمييز والفقر والتهميش في عدة جوانب.
"الدولة تجبر الدروز على البناء بشكل غير قانوني، ومن ثم تهدم منازلهم. البنية التحتية في مجتمعاتهم مهملة، ومستوى السلامة الشخصية منخفض، ومدارسهم متدنية، بالإضافة لما يسمى بـ "قانون كامينيتس" الخاص بالبناء غير القانوني ومعدل الجريمة المتصاعد" بهذه المرارة كتب الصحفي الشاب الدرزي الإسرائيلي فادي أمون في صحيفة هآرتس شكواه حول معاناة طائفته.
تهميش الدروز بدا جلياً يوم الأربعاء، حينما انطلقت مظاهرات درزية عنيفة في هضبة الجولان ضد قرار حكومي ببناء مولدات طاقة من الرياح لشركات خاصة. وقد هاجمت الشرطة الإسرائيلية المتظاهرين كما لو كان المشهد من أحد المخيمات الفلسطينية في الضفة المحتلة، وأوقعت العديد من الإصابات بالضرب والرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع، بينما اقتحم الدروز المتظاهرون مركز الشرطة وأغلقوا الشوارع.
من مظاهرات دروز الجولان المحتل احتجاجا على إقامة توربينات رياح على أراضيهم. أ ف ب
"بعد محادثات مع العديد من إخواننا الدروز، يبدو أن الطريقة التي تم بها تشريع قانون الدولة القومية أضرت بهم بالفعل وألحقت الأذى بأولئك الذين ربطوا مصيرهم بالدولة اليهودية. هؤلاء هم إخواننا في الدم الذين يقفون معنا جنباً إلى جنب في ساحة المعركة والذين دخلوا معنا في عهد الحياة. نحن، حكومة إسرائيل، نتحمل مسؤولية إيجاد طريقة لإصلاح الصدع" هكذا صرح وزير التعليم، آنذاك، نفتالي بينيت، في يوليو عام 2018 في محاولة لاحتواء الضرر الناتج عن تبني الكنيست الإسرائيلي قانون القومية المثير للجدل.
يُعرِّف هذا القانون إسرائيل كـ"دولة قومية للشعب اليهودي فقط"، حينها قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن "إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها"، ما أجج من الشعور بالخذلان والتخلي بين أبناء الطائفة الدرزية من الذين خدموا في الجيش الإسرائيلي".
قانون القومية جعل من الدروز وفلسطينيي الداخل، مواطنين من الدرجة الثانية دون حقوق متساوية مع أقرانهم اليهود الذين ميزهم القانون بأنهم أصحاب الوطن القومي واليد العليا في البلد.
"اعتذار بينيت هذا مجرد كلام. ما رأيه، هل نحن الدروز أغبياء؟ لم نعد أغبياء بعد الآن. هذا جيل مختلف. أين كنت خلال التصويت يا بينيت؟" رد منيب فارس من بلدة حرفيش الدرزية الشمالية بهذه العبارة التهكمية على تغريدة رئيس حزب البيت اليهودي.
قانون القومية صنع شرخاً في العلاقة بين المجتمع الدرزي وإسرائيل، وأضعف من نظرة الثقة تجاه الحكومة، وسط تنامي حركات رفض الخدمة العسكرية مثل حملة "ارفض، شعبك بيحميك" التي أطلقها الدروز والتي توفر الدعم الشامل لأي درزي في سن الثامنة عشر عام والذي يوشك على الانضمام للتجنيد الإجباري. وتوفر الحملة المساعدة القانونية والمعلومات الإرشادية لرفض الانضمام للجيش الإسرائيلي.
الآن، يوشك مشروع قانون جديد في الكنيست على تأجيج الفجوة بين الدروز وإسرائيل، حيث ينص مشروع القرار على أن الصهيونية ستكون "المبدأ الرئيسي والحاسم" في جميع أنشطة الوزارات الحكومية، من أجل "إعطاء الأولوية لجنود جيش الدفاع الإسرائيلي وقدامى المحاربين، وإقامة صلة بين الشعب اليهودي على أرضه"، وتقوية الوجود اليهودي في النقب والجليل والضفة الغربية، وهو ما قد يعني قطع آخر علاقة بين إسرائيل والدروز.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة