أمن‎

ماكرون بموقف حرج.. كيف أصبحت الشرطة الفرنسية "الأكثر قسوة في أوروبا"؟

نشر

.

Camil Bou Rouphael

"قسوة الشرطة الفرنسية عنيفة جدا" و"ماكرون يحاول الهروب من التصعيد السياسي"، كلمات تسمعها كثيرا حين تتجول في شوارع باريس خلال الاحتجاجات المندلعة منذ مقتل الفتى نائل البالغ 17 عاما بالرصاص على يد شرطي خلال عملية تدقيق مروري مساء 27 يونيو.

وأعاد التوتر الذي حصل في باريس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى "نقطة الصفر" في حين كان يسعى إلى ترتيب أوضاعه بعد الأزمة التي حصلت إثر تعديله لنظام التقاعد في البلاد. الآن وبعد "أعمال العنف" في البلديات، تقول صحيفة لو موند الفرنسية أن "ماكرون يحاول الهروب من التصعيد السياسي. ويسعى إلى تحليل أصل العنف قبل تقديم تصريحات وأجوبة بشأن الأزمة في الضواحي".

مقتل الفتى نائل م. البالغ 17 عاما بالرصاص على يد شرطي خلال عملية تدقيق مروري مساء 27 يونيو. أ ف ب

معسكران في البلاد

"الكرم، الاحترام، الأخوة" هي الكلمات التي قالها الرئيس الفرنسي السباق جاك شيراك في 14 نوفمبر 2005، بعد ١٨ يوما من بدء أزمة مماثلة في الضواحي، تتناقض مع النبرة السائدة في عالم السياسة الفرنسية منذ يوم الثلاثاء ٢٧ يونيو، وفق لو موند.

اكتفى ماكرون بالقول: "بالكلمات والنظرات، من القلب والأفعال، يتم التأشير على الاحترام الذي يستحقه الجميع. أتوجه للأشخاص في الضواحي، أنه مهما كانت أصولهم، أنهم جميعا بنات وأبناء الجمهورية(..)". وتابع حديثه بالتهدئة: "لن نبني أي شيء يدوم إذا سمحنا للعنصرية والتعصب والإهانة والغضب بالتصاعد".

بعد ١٨ عاما على خطاب شيراك، يبحث ماكرون بدوره عن كلمات تخاطب فرنسا التي تتمزق أمام عينيه منذ وفاة الشاب ناهيل م، حسب الصحيفة الفرنسية.

وفي زيارة مفاجئة إلى ثكنة بيسيير، في الدائرة السابعة عشر بباريس، مساء الإثنين، أراد ماكرون دعم كتيبة مكافحة الجريمة. وهذا الثلاثاء، أراد أن يتحدث إلى نحو 220 رئيس بلدية عانوا من العنف في بلدتهم.

أمام كل ذلك، يشهد رئيس الجمهورية الفرنسية معركة مفتوحة في الميدان السياسي، في ظل تحفيز الفتن. قابل ذلك نوع من الانسجام السياسي يوم الإثنين، دعما لرؤساء البلديات المستهدفين بالعنف. لكن الخندق يتسع بين معسكر يطالب بـ"العدالة" لناهد م. لدرجة عدم إدانة النهب والتدمير، ومعسكر "الشرطة" الذين يعتقدون أنهم يدافعون عن مؤسسة الشرطة من خلال القبول بجميع ممارساتها.

يشهد رئيس الجمهورية الفرنسية معركة مفتوحة في الميدان السياسي. أ ف ب

سبب "الاشتعال"

سألت فورين بوليسي الأميركية، "لماذا تحترق فرنسا؟" لتشير بعد ذلك إلى "توترات عميقة ما زالت قائمة بين قوات الأمن والمجتمعات السوداء والعربية التي تعيش في أفقر المناطق الحضرية في البلاد، مما سلط الضوء من جديد على اتهامات بالعنف المنهجي والعنصرية من قبل رجال الشرطة الفرنسيين الذين هم بالفعل أكثر قسوة من نظرائهم الأوروبيين".

على غرار حالة جورج فلويد، وهو رجل أميركي من أصل أفريقي اختنق حتى الموت على يد ضباط شرطة مينيابوليس أمام العديد من المارة في عام 2020، سجل الحدث في مقطع فيديو تم تداوله على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، مما أثار غضبا عارما حينها. اندلع العنف بعد فترة وجيزة من الحادثة في فرنسا، وانتشر بسرعة من نانتير إلى ضواحي فقيرة أخرى في جميع أنحاء البلاد ثم إلى مراكز المدن، حيث أقيمت الحواجز، وأضرمت النيران في السيارات والمباني العامة، ونُهبت المتاجر.

تقول الصحيفة الأميركية إنها أخطر أعمال الشغب التي شهدتها فرنسا منذ عام 2005، عندما تسبب الشباب الذين ينتمون إلى أقليات عرقية في إحداث الفوضى في أفقر الأحياء في فرنسا لمدة ٣ أسابيع بعد وفاة مراهقين عرضيا أثناء مطاردتهم من قبل الشرطة.

المتوسط الفرنسي التقريبي للأشخاص الذين قتلوا على أيدي الشرطة والبالغ عددهم 44 كل عام منذ مطلع العقد يتضاءل. أ ف ب

"عنصرية ووحشية"

سيباستيان روشيه، الخبير العسكري في جامعة ساينس بو في غرونوبل، أوضح أن الشرطة الفرنسية تعاني من "مشكلة مزدوجة تتمثل في التمييز العنصري والوحشية، لكن لا تعترف الحكومات السابقة والحالية بأي منها".

من جهته اعتبر إريك مارليير، عالم الاجتماع بجامعة ليل، أن صور حوادث مماثلة في فرنسا "ظهرت في الماضي، لكنها ليست بنفس القدر من الضرر مثل هذه الأحداث"، متابعا: "نحن ننظر إلى مشهد عنيف للغاية يذكرنا بقضية جورج فلويد" وساهم في تسريع حركة الاحتجاج.

ما حصل يمثل ضررا كبيرا آخرا لماكرون، الذي يسعى إلى إعادة بناء رأسماله السياسي في الداخل والخارج بعد أشهر من الإضرابات بسبب تعديله لنظام التقاعد، واضطر الآن إلى تأجيل رحلة مقررة إلى ألمانيا من أجل التعامل مع الأزمة الجديدة، بعد إجباره على المغادرة مبكرا من قمة أوروبية في بروكسل للإسراع بالعودة إلى باريس الأسبوع الماضي.

جذور عنف العكسر الفرنسي

للشرطة الفرنسية تاريخ طويل من القسوة، وفق فورين بوليسي، لا سيما مع الأقليات العرقية. على مدى عقود شكلت الضواحي المليئة بالمهاجرين والفقر والجريمة على أطراف أكبر مدن فرنسا تحديا دائما للشرطة. لكن التوترات بين السكان وقوات الأمن في الضواحي ازدادت سوءا على مدار الـ١٥ عاما الماضية، وفقا لروشيه.

وبعد العام ٢٠٠٥، في ظل حكومات مختلفة، تم تطوير نهج جديد للرقابة على الضواحي، وهو نهج تمحور إلى حد كبير حول الوحدات الأكثر صرامة، مثل قسم مكافحة الجريمة، المصممة خصيصا لتنفيذ الاعتقالات وتميل إلى جذب العناصر الأكثر قسوة وفق ما نقلت الصحيفة الأميركية.

فهذه الشرطة خصصت بنادق لمكافحة الشغب تطلق الرصاص المطاطي الذي يمكن أن يتسبب في إصابات خطيرة أو حتى الموت.

وشرح روشيه: "أصبح المنطق السائد أن الشرطة ليست في الضواحي من أجل التواصل مع الناس وكسب ثقتهم وطمأنتهم، بل لاحتجازهم وردعهم وبث الخوف".

أشارت صحيفة فورين بوليسي إلى أن المتوسط الفرنسي التقريبي للأشخاص الذين قتلوا على أيدي الشرطة والبالغ عددهم 44 كل عام منذ مطلع العقد يتضاءل مقارنة بالمئات الذين يموتون في الولايات المتحدة، ولكنه أعلى بكثير مما هو عليه في ألمانيا أو المملكة المتحدة. حسب تحليل الصحيفة تتعلق بعض أسباب جذور العنف بالمعايير المنخفضة والتدريب لمدة قصيرة الذي نتج عن جهود ماكرون لتعزيز صفوف الشرطة بسرعة بعد توليه منصبه في عام 2017. وضربت مثالا أنه خلال السنوات الأخيرة، ارتفعت معدلات القبول من واحد من كل 50 مرشحا إلى واحد في خمسة. ويحصل المجندون الجدد الآن على ٨ أشهر فقط من التدريب، مقارنة بثلاث سنوات في ألمانيا.

حسب الصحيفة إنها وصفة لتعزيز شعبية رجال الشرطة. فهناك فقط 50٪ من الشباب في فرنسا يعتبرون الشرطة "صادقة"، ويعتقد 46٪ أن الشرطة تستخدم القوة بطريقة متناسبة، مقارنة بـ69٪ و63٪، على التوالي في ألمانيا.

هناك فقط 50٪ من الشباب في فرنسا يعتبرون الشرطة "صادقة". أ ف ب

قانون ضاعف القتل؟

لكن الأمر لا يتعلق فقط بجودة الضباط؛ إنها أيضا القواعد التي يلتزمون بها. في أعقاب إطلاق النار في نانتير، أشار الكثيرون بإصبع الاتهام إلى قانون عام 2017 الذي يسمح للشرطة باستخدام أسلحتهم النارية حتى عندما لا تكون حياتهم أو حياة الآخرين في خطر مباشر. بعد الموافقة على مشروع القانون، تضاعف عدد الأشخاص الذين قتلوا في سياراتهم بعد عدم الامتثال لتوقف حركة المرور بمقدار ٥ أضعاف، حيث قُتل 13 شخصا في مثل هذه الظروف العام الماضي. ووفقا لإحصاء لرويترز، فإن غالبية القتلى أثناء توقف حركة المرور من قبل الشرطة منذ توسيع صلاحياتهم في استخدام القوة كانوا من السود أو من أصل عربي.

وأظهرت الدراسات أنه كما هو الحال في الولايات المتحدة، يخضع الأشخاص السود لفحص هوياتهم من قبل الشرطة والتعرض للتفتيش أو الإهانة أو التعنيف في فرنسا أكثر من الأشخاص البيض، وفقا لفورين بوليسي.

أمام هذه الاتهامات أصر وزير الداخلية جيرالد دارمانين مرارا وتكرارا على أنه رغم وجود التفاح الفاسد، فإن "الشرطي الفرنسي العادي ليس عنصريا" وأن قوات الأمن "هي أفضل مدرسة للاندماج في الجمهورية".

مع احتراق نحو 5 آلاف سيارة، وألف مبنى متضرر، و250 هجوما على مراكز الشرطة، وإصابة أكثر من 700 ضابط، في غضون أيام قليلة فقط، تسببت الموجة الأخيرة من الاضطرابات في خسائر فادحة مقارنة بأسابيع عدة من أعمال العنف التي هزت فرنسا في عام 2005.

تسببت الموجة الأخيرة من الاضطرابات في خسائر فادحة. أ ف ب

اعرف أكثر

ماذا حصل خلال الأيام الماضية؟

  • جرت تجمّعات "مدنيّة"، الإثنين، أمام العديد من البلديات الفرنسية لقول "كفى" لموجة أعمال العنف الليلية التي تشهدها المدن منذ الثلاثاء والتي تراجعت حدّتها الليلة الماضية. وكانت جمعية رؤساء بلديات فرنسا دعت، الأحد، "إلى تعبئة مدنية للعودة إلى النظام الجمهوري" بعد ساعات على هجوم عنيف بسيارة استهدف ليلا منزل رئيس بلدية إي-لي-روز فينسان جانبران في ضاحية باريس وأثار تنديدا عمّ البلد.
  • وتجمّع نحو ألف من سكّان البلدة الواقعة جنوب باريس، الإثنين، برفقة أعضاء في المجلس البلدي وساروا حول البلدية، ورأى جانبران في كلمة ألقاها أمام الحشد أن "الديمقراطية نفسها تتعرض لهجوم". وأضاف "كفى!". وأكد ماكرون، الإثنين، لرئيس البلدية "ثقته" و"دعمه" له، بحسب ما أفاد قصر الإليزيه. وتقدّم جانبران المسيرة خلف لافتة كتب عليها "معا من أجل الجمهورية!"، محاطا بقادة من حزبه "الجمهوريون" (معارضة يمينية) بينهم رئيسة منطقة إيل-دو-فرانس فاليري بيكريس. وفُتح تحقيق في "محاولة قتل".
  • في منطقة باريس وحدها، أعلنت هيئة المواصلات المحلية "إيل دو فرانس موبيليتيه" أنّ أعمال الشغب ألحقت "أضرارا بقيمة لا تقل عن عشرين مليون يورو" بوسائل النقل العام بحسب تقديرات أولية، مع إحراق وتدمير باصات وحافلات ترامواي وتجهيزات. وأحرق ما مجموعه 39 باصا في العاصمة ومحيطها. وفي ستراسبورغ (شرق) صدرت أحكام بالسجن مع النفاذ لفترات تترواح من ٤ إلى ١٠ سنوات بحقّ أشخاص شاركوا في أعمال الشغب، بحسب مراسل لوكالة فرانس برس.
  • بعد خمس ليال متتالية من أعمال الشغب في المدن، شهد ليل الأحد الإثنين تراجعا في حدة العنف مع توقيف 157 شخصا بالمقارنة مع أكثر من 1300 ليل الجمعة- السبت، وتراجع عدد الحرائق بشكل واضح، ولم يسجل وقوع أي حادث كبير.

  • قالت وزارة العدل إن نحو ٣ آلاف و٩٠٠ شخص اعتقلوا بالإجمال منذ الجمعة بينهم ألف و٢٤٤ قاصرا. وأوضح وزير الداخلية أنّ متوسط أعمار الموقوفين هو 17 عاما وبينهم أطفال في الـ١٢ والـ١٣ من العمر، مشيرا إلى أن 60% من الموقوفين منذ الثلاثاء لا سوابق إجرامية لهم. وفي مؤشّر إلى استمرار التوتر، أعلن دارمانان، الإثنين، تمديد عملية نشر 45 ألف شرطي ودركي على كامل الأراضي الفرنسية والمستمرة منذ الجمعة.
  • استقبل ماكرون، الإثنين، رئيسي مجلسي البرلمان على أن يلتقي الثلاثاء رؤساء بلديات أكثر من 220 مدينة وبلدة استهدفتها أعمال الشغب. وقالت الرئاسة إنّ ماكرون يدعو إلى إجراء "عمل دقيق وطويل الأمد لتكوين فهم عميق للأسباب التي أدّت إلى هذه الأحداث". من جانبها، التقت رئيسة الوزراء إليزابيت بورن عصر الإثنين ممثّلي الكتل السياسية في البرلمان للبحث في "اقتراحات".

تجمّع مواطنون وأعضاء في مجالس بلدية وموظفو بلديات الإثنين في جميع أنحاء فرنسا. أ ف ب

  • تجمّع مواطنون وأعضاء في مجالس بلدية وموظفو بلديات الإثنين في جميع أنحاء فرنسا، وبلغ عددهم ١٠٠ شخص في نانتير و٢٠٠ في تولوز (جنوب غرب) و٣٠٠ في بريست (شمال غرب).

أزمة ماكرون

  • بعد الخروج من أزمة نظام التقاعد الرئيس الفرنسي في مأزق جديد. لم يكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يخرج من أزمة نظام التقاعد حتى وجد نفسه أمام تحدّ أشدّ خطورة مفتوح على احتمالات عديدة، مع اشتعال أحياء الضواحي نتيجة مقتل فتى برصاص شرطي، حسب تقرير فرانس برس.
  • عند انتهاء الأزمة التي نتجت عن إصلاح نظام التقاعد، أمهل ماكرون نفسه مئة يوم حتى 14 يوليو من أجل "تهدئة" البلد ووضع رئاسته على السكة مجددا، وهو ما بدا في طور إتمامه. غير أنه اليوم في مأزق جديد مع تواصل أعمال العنف والشغب لخمسة ليال على التوالي في أحياء الضواحي في مختلف أنحاء فرنسا بعد مقتل الشاب نائل البالغ 17 عاما الثلاثاء برصاص شرطي. ويبدو التعارض صارخا بين مشاهد بلديات ومدارس وحافلات ترامواي تحترق وصور ماكرون قبل ذلك بيومين يحيّي الحشود ويخالطها في الأحياء "الحساسة" بمدينة مرسيليا بجنوب فرنسا.
  • رأى الخبير السياسي برونو كوتريس "إنه نبأ سيء جدا لرئيس الدولة واستراتيجيته القاضية بترك (أجندة الحكومة) تنساب نحو 14 يوليو، والمراهنة على هدوء شهر أغسطس وإجراء تعديل (وزاري) لإغلاق مرحلة" نظام التقاعد، وفق الوكالة الفرنسية.
  • على صعيد آخر، حملت أعمال الشغب في المدن الرئيس السبت على تأجيل زيارة دولة كان يعتزم القيام بها إلى ألمانيا من مساء الأحد إلى الثلاثاء، وأوضح قصر الإليزيه أن ماكرون يود "البقاء في فرنسا خلال الأيام المقبلة". وقبل ذلك ألغيت زيارة ملك بريطانيا تشارلز الثالث في نهاية مارس بسبب الأزمة الاجتماعية الحادة حول نظام التقاعد. وقال مسؤول في الغالبية مبديا أسفه "بعد كوفيد والسترات الصفراء والحرب في أوكرانيا، يمكن القول أنه لم يبق أزمة إلا وواجهها". وقبل أسبوع من ذلك، كان أحد الوزراء يقول مبديا ارتياحه إنه "خلال عام كامل، لم نواجه مشكلة كبرى" من نوع فضيحة الحارس الشخصي السابق للرئيس ألكسندر بينالا الذي انتشر فيديو يظهر فيه يضرب شابا خلال تظاهرة، أو احتجاجات السترات الصفراء، كما في الولاية الرئاسية الأولى.

حمل التطبيق

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة