أمن
.
خاڤيڤ غور، صحافي إسرائيلي من أصول أميركية، يعمل مراسلا ومحللا في صحيفة تايمز أوف إسرائيل، على الرغم من أعباء عمله إلا أنه أنشأ شركة ريادية ناشئة، Startup، محاولاً دخول عالم البزنس ولم يوفق، لكنه ما يزال يحلم بذلك.
حال خاڤيڤ هو حال الكثير من الإسرائيليين الذين يصيبهم ما يشبه "هوس المشاريع الريادية"، بعضها لا يُكتب له النجاح، ولكن البعض الآخر تصعد قيمته بسرعة لتصل إلى مليارات الدولارات، للدرجة التي تعتبرها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة "مصدر اعتزاز وتسويق إيجابي لسمعة الدولة".
هذه الصورة على وشك التغير، بعد تمرير الإئتلاف الإسرائيلي اليميني الحاكم أولى التعديلات القضائية المثيرة للجدل، الاثنين ٢٤ يوليو، والتي يقول معارضوها إنها تقوّض استقلالية ونفوذ السلطة القضائية وتمهّد الطريق لإعطاء سلطة شبه مطلقة للحكومة.
قبل سنوات كان خاڤيڤ يحلم بالسلام والاعتراف المتبادل، لتنمو شركته، لكن الوضع الآن صار أكثر تعقيدا.
بالإضافة إلى عشرات آلاف المتظاهرين الذين خرجوا في احتجاجات أسبوعية منذ مطلع العام ضد حكومة بنيامين نتنياهو، ورفض آلاف جنود وضباط الاحتياط الخدمة في الجيش، ظهر أمس، نذير يهدد مستقبل "فخر إسرائيل"، حيث أوضح استطلاع رأي بأنه ما يقارب 70% من تلك الشركات الريادية بدأت بالتجهيز للانتقال خارج إسرائيل وسحب الاستثمارات منها.
في المحافل الدولية، واظب رؤساء وزراء إسرائيل مثل بنيامين نتنياهو، ونفتالي بينيت، ويائير لابيد على وصف إسرائيل بجملة "دولة الشركات الريادية الناشئة"، والهدف كان التسويق لروح الابتكار والمبادرة والإبداع، وأنها "مصدر خير للعالم جدير بالتقدير والتعاون معه".
كنية "دولة الشركات الريادية" بدأت في الرواج عام 2009، عندما أصدر كاتبين أميركي وإسرائيلي كتابا يحمل نفس الاسم، يدرس كيف تمّكنت إسرائيل من الوصول إلى نمو اقتصادي عال، بعد إدراج حوالي 63 شركة إسرائيلية في بورصة ناسداك الأميركية بداية العام 2009 "أكثر من أية دولة أجنبية أخرى". وسرعان ما تبنى بنيامين نتنياهو تلك الكنية وبدأ في استعمالها بشكل متكرر في خطاباته، حتى أصبحت دارجة على ألسن الساسة الإسرائيليين.
رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في بورصة لندن، نوفمبر ٢٠١٧. أ ب
على أرض الواقع، تحتل إسرائيل المركز الثامن عالمياً من حيث مخرجات قطاع الشركات الريادية الناشئة في العام 2023 بعد الدول الكبرى: الهند، والصين، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وكندا، وألمانيا.
هل سمعت من قبل بوصف "شركة يونيكورن" أو حصان وحيد القرن؟ هو مصطلح في عالم المال والأعمال يُطلق على الشركات الناشئة التي تصل قيمتها السوقية لأكثر من مليار دولار، واستخدم الاقتصاديون هذا المصطلح باعتبار أن الوصول إلى رقم مليار دولار يعادل العثور على "مخلوق أسطوري".
في إسرائيل نحو 98 شركة "حصان وحيد القرن" Unicorn، وتقول صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية إن هذا الرقم يعني أن نسبة الشركات المليارية في إسرائيل أعلى من أي دولة أوروبية بحوالي 40%. وتعتبر شركة FreeMap Israel المصنعة لتطبيق Waze للخرائط المرورية أحد أبرز تلك الشركات، قبل استحواذ جوجل على التطبيق.
من حفل تسجيل إحدى الشركات الإسرائيلية في بورصة نيويورك. أ ب
شركة ديلويت، أحد أضخم الشركات الاستشارية في العالم، تبنت وصف "الدولة الريادية" عن إسرائيل في إشادتها بوجود نحو 6 آلاف شركة ريادية ناشئة، بالإضافة لهيمنة قطاع صناعات التكنولوجيا المتقدمة على الاقتصاد الإسرائيلي، لتنمو قيمة قطاع الشركات الريادية الإسرائيلية بما يقارب أربعة أضعاف بين الأعوام 2018 و2022، وترتفع من 113 مليار دولار إلى نحو 393 مليار دولار.
نحو 80% من الشركات الإسرائيلية الريادية الناشئة هذا العام تم تأسيسها خارج إسرائيل، وفقاً لإحصائية أصدرتها سلطة الابتكار الإسرائيلية. هذا الرقم يعتبره خبراء الاقتصاد "مفزعا"، وما يزيد الأمر سوءاً هو اتخاذ 68% من الشركات الريادية الإسرائيلية إجراءات لنقل أجزاء من أعمالها إلى خارج إسرائيل في ظل الإصلاحات القضائية وفقاً لوكالة رويترز.
الغالبية العظمى من الشركات الريادية، نحو 80% منها، تقول إن تلك الإصلاحات أثرت سلباً على أعمالهم، سواء بسبب نقص وهروب الاستثمارات الأجنبية أو سعي بعض الموظفين للانتقال إلى الخارج مع صعوبة الحصول على تمويل أجنبي.
في العام الجاري، ارتفعت نسبة شركات اليونيكورن الهاربة من إسرائيل بنسبة 10%، حيث تتخذ الآن 88 شركة من تلك الشركات الـ98 المليارية، من الولايات المتحدة مقراً لها. في الوقت ذاته، رصد تقرير لصندوق الاستثمار Viola في شهر فبراير بأن نصف شركات اليونيكورن الإسرائيلية فقدت قيمتها لتهبط ما دون المليار دولار.
الحكومة الإسرائيلية استغلت هذه السمعة لتطبيع علاقاتها في قارة أفريقيا في الأعوام القريبة الماضية، مع دول مثل تشاد، وغينيا وغيرها.
عادة تساند دول القارة الأفريقية القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، لذلك، كانت رسالة نتنياهو لقادة تلك الحكومات بأن شركات إسرائيل الريادية تستطيع تقديم المساعدة الاقتصادية والتنموية، عبر مشاريع تنقية المياه ومكافحة الأمراض، في مقابل بناء علاقات دبلوماسية رسمية، بحسب تايمز أوف إسرائيل.
هل تعلم أن الإسرائيليين لم يتذوقوا مشروب بيبسي إلا في تسعينات القرن الماضي؟ والسبب يعود للفلسطينيين. فحتى بداية تسعينات القرن الماضي، لم تجرؤ أي من شركات السيارات الكورية أو اليابانية مثلاً على الاقتراب من الدولة العبرية، بينما امتنعت شركة بيبسيكو المصنّعة للمشروب الغازي الشهير عن بيع منتجاتها في إسرائيل حتى قبل ٣٠ سنة.
المقاطعة العربية لأية شركة تمارس أعمالها في إسرائيل شكلت جزءا من السبب، بالإضافة لحالة التأهب للحرب التي عاشتها إسرائيل حتى ذلك الحين، بحسب صحيفة هآرتس، ما رفع من معدلات الجمارك والضرائب لتسديد فاتورة تسليح الجيش العالية. إلى جانب ذلك، أرهقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الاقتصاد الإسرائيلي وأدت لتدهور حاد في صورة إسرائيل دولياً، بحسب المحلل الاقتصادي الإسرائيلي ديفيد روزنبرغ.
الاستثمار الأجنبي المباشر هو أحد الأعمدة التنموية للاقتصادات الحديثة، وشكل جزءاً هاماً من نهوض العديد من الدول النامية ودخولها نادي الدول المتقدمة. لكن في ثمانينات القرن الماضي، كان هناك غياب شبه كامل لتلك الاستثمارات في إسرائيل. وفقاً لهآرتس، تراوحت الاستثمارات الأجنبية ما بين 21 مليون دولار سنوياً إلى 589 مليون دولار كحد أقصى.
اتفاقيات السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبين إسرائيل والأردن في العام 1993 أنهت حالة ترقب الحرب والتأهب العالية وأفادت صورة إسرائيل دولياً، ما خلق بيئة سياسية أشعرت الشركات متعددة الجنسيات بالراحة حيال إمكانية الاستثمار وممارسة الأعمال التجارية مع إسرائيل.
توقيع اتفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني برعاية أميركية، سبتمبر ١٩٩٣. أ ب
العشرات من الشركات الكبرى بدأت في فتح فروع أو مقرات إقليمية في إسرائيل منذ ذلك الحين، مثل ماكدونالدز، ونستله، ويونيليفر، بالإضافة للشركات التكنولوجية مثل مايكروسوفت، وإنتل، وآبل. الاستثمارات الأجنبية قفزت في إسرائيل فور توقيع الاتفاقية لنحو 1.35 مليار دولار في عام 1995، ثم وصلت لمبلغ 4.82 مليار دولار عام 2005، وواصلت الصعود منذ ذلك الحين حتى وصلت لمبلغ 18 مليار عام 2018. هذه الأرقام خلقت بيئة مشجعة على بناء الشركات الريادية، من خلال السعي للتمويل الأجنبي.
أما شركة بيبسي، فهي لم تفتتح فقط فروعا لها في إسرائيل، بل اشترت شركة SodaStream الإسرائيلية على الرغم من ممارسة تلك الشركة أنشطتها من داخل مستوطنة معالي أدوميم في قلب الضفة الغربية المحتلة. في الواقع، نحو 60 شركة عالمية تقوم بأنشطتها من داخل مستوطنات إسرائيلية، أقيمت على أراض فلسطينية محتلة وفقاً للقائمة السوداء للأمم المتحدة.
في مقابل هذه العوائد الاقتصادية الهائلة، إلا أن الاقتصاد الفلسطيني ما يزال يراوح في مكانه، بسبب القيود الصارمة والخانقة التي تفرضها إسرائيل. تقدر الأمم المتحدة أن القيود الإسرائيلية كبّدت الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وحدها ما يقارب من 50 مليار دولار خلال الأعوام من 2000 إلى 2020، بينما تكبد قطاع غزة خسائر اقتصادية بما يقارب 16.7 مليار دولار في الفترة بين 2007 و2018.
أحد الأمثلة على تلك القيود هو محاولة السلطة الفلسطينية في عام 2020 وقف استيراد العجول من إسرائيل واستبدال ذلك بماشية مستوردة من الدول العربية المجاورة، لكن الحكومة الإسرائيلية فرضت عقوبات اقتصادية على السلطة وصادَرَت القافلة الأولى من العجول الواردة من الأردن واستمر ذلك الوضع إلى أن وافقت السلطة على المطالب الإسرائيلية باستيراد العجول الإسرائيلية بشكل حصري.
بمجرد أن باشر التحالف الإسرائيلي الحاكم الحديث حول الإصلاحات القضائية المرتقبة في شهر ديسمبر الماضي، أرسل 200 من رؤساء كبار شركات التكنولوجيا المتقدمة برسالة عاجلة لنتنياهو يحذرونه فيها من أن تلك التعديلات سيكون لها "تأثير مدمر على الاقتصاد"، وأنها ستعمل على طرد الاستثمارات الأجنبية التي يعتمد عليها ذلك القطاع بشكل كبير.
لم يمض سوى أقل من شهرين على تولي نتنياهو مقاليد الحكم، على رأس أكثر حكومة يمينية متشددة في تاريخ البلاد، حتى بدأت رؤوس الأموال بالهروب من إسرائيل. ففي منتصف شهر فبراير، قالت البنوك الإسرائيلية إن نحو 4 مليار دولار خرجت من البلاد خلال أقل من 3 أسابيع.
ومع تصاعد الأزمة السياسية وحالة الانقسام في الشارع الإسرائيلي، أرسل نحو 255 مستثمرا أميركيا بارزا من ضمنهم وكيل وزارة الخزانة السابق جيفري غولدستين برسالة أخرى إلى بنيامين نتنياهو يهددون فيها بسحب الاستثمارات في حال مضى تحالفه قدماً في التعديلات القضائية.
يوم الاثنين ٢٤ يوليو، شهدت البورصة الإسرائيلية انخفاضاً كبيراً في أسعار الأسهم بينما انخفضت العملة الإسرائيلية، الشيكل، عقب تصويت أغلبية أعضاء الكنيست لصالح قانون إلغاء "مبدأ العقلانية" الذي يسمح للمحكمة الإسرائيلية العليا إبطال قرارات حكومية، تراها المحكمة مخالِفة لمبادئ حقوق الإنسان أو القوانين الأساسية للبلاد، لكن يبدو أن الاقتصاد، وتحديدا شركاته الناشئة هي الخاسر الأكبر من التعديلات.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة