أمن‎

فرنسا وأفريقيا.. علاقة حب انقلبت إلى التظاهر بالعلم الروسي

نشر

.

Alaa Osman

بين ليلة وضحاها فُرضت قواعد جديدة للعبة السياسية في النيجر، بعد أن سيطر الجنرال عبد الرحمن تياني على السلطة وأزاح رئيس البلاد المنتخب، محمد بازوم.

يبدو أيضا أن العاطفة تجاه الغرب، وبالأخص فرنسا، تبدلت تماما. في الوقت الذي تضج فيه قاعات المؤسسات الدولية والاتحادات السياسية في المنطقة بمناقشات حول كيفية استعادة الديمقراطية في الدولة الأفريقية الغربية، تنتفض شوارع النيجر ذاتها بتظاهرات تشوبها لمحة من العنف، إلا أنها ليست موجهة ضد الانقلاب، بل ضد القوى الغربية التي تحفظت عليه.

قوة العلاقة بين فرنسا والنيجر، بلغت درجة من الاستقرار للدرجة التي سمحت لفرنسا بإرسال ١٥٠٠ من جنودها إلى النيجر، حسب وكالة فرانس برس، إلا أن محيط السفارة الفرنسية شهد صباح اليوم تجمهر آلاف المتظاهرين الذين صبوا غضبهم على لافتة السفارة وأزالوها، وعلقوا بدلا منها العلم الروسي.

تلك الإشارات الجديدة، تلخص العلاقة المتقلبة بين دول الغرب الأفريقي وفرنسا، المستعمر القديم الذي لم يتوقف أثره الاقتصادي والثقافي على المنطقة منذ قرون، بينما تتجه أخيرا مؤشرات العلاقات الثنائية إلى العداء، الذى خمد منذ عقود تحت الرماد الذي أهالته حركات الاستقلال ستينيات القرن الماضي.

تنتفض شوارع النيجر بتظاهرات عنيفة، ليست موجهة ضد الانقلاب، بل ضد القوى الغربية التي تحفظت عليه. أ ب

تهديد رئاسي

بعد إزالة اللافتة التي تحمل عبارة "سفارة فرنسا في النيجر" داس المتظاهرون الغاضبون اللافتة بالأقدام، إلا أن قنابل الغاز المسيل للدموع لاحقتهم في الشوارع والطرقات قبل أن يتمكنوا من من اقتحام مقر السفارة. التظاهرة أثارت حفيظة القيادة السياسية الفرنسية التي لم تعتد على هذا النوع من مشاعر الكراهية في دول ترتبط معها بإرث ثقافي واقتصادي واسع.

من جهته هدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالرد فورا وبشدة على أي هجوم يستهدف مواطني فرنسا أو مصالحها في النيجر، فإلى جانب القوات العسكرية، هناك مواطنين فرنسيين أيضا في البلاد تتراوح أعدادهم ما بين ٥٠٠ و٦٠٠ شخص، كانت بلادهم قد تواصلت معهم على خلفية التقلبات في البلاد.

لم تُصدِر السلطات الفرنسية أمرا رسميا لهؤلاء بمغادرة البلاد، إلا أنها تتخذ إجراءات احترازية، بحسب تصريحات إذاعية لوزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا.

للوصول إلى اللحظة التي تأزّم خلالها وضع فرنسا في النيجر وغيرها من دول غرب أفريقيا، علينا العودة بآلة الزمن عدة قرون للوراء، وبالتحديد القرن الـ١٥، عندما بدت السواحل الأفريقية الغربية مغرية في أعين المستعمر الأوروبي.

مقاطعة خارج الحدود

بدأ الأمر كله في القرن الخامس عشر، عندما بدأ البرتغاليون أولا في استكشاف الساحل الأفريقي، وتدشين علاقات تجارية مع سكانه، قبل أن يلحق بالركب أسبانيا وهولندا وبريطانيا وفرنسا، حيث شكلت المنطقة محورا تجاريا هاما للحصول على عدد من السلع في مقدمتها الذهب.

على الرغم من التواجد الفرنسي في غرب أفريقيا عبر الموانئ التجارية منذ العام ١٦٥٩، إلا أنها لم تعزز وجودا حقيقيا قبل القرن التاسع عشر، حينها فقط بدأت القوة الاستعمارية الفرنسية في الاستقرار في المنطقة، والانتقال لمناطق أكثر عمقا في القارة السمراء من الصحاري، إلى حشائش السافانا، حتى بات يُنظر للمستعمرات الأفريقية وكأنها مجرد مقاطعات فرنسية تقع خارج الحدود، بحسب مقال نُشر على موقع مركز الدراسات الأفريقية في جامعة بنسلفانيا الأميركية.

بحلول القرن العشرين، امتد النفوذ الفرنسي ليشمل السنغال، ومالي، وبوركينا فاسو، وبنين، وغينيا، وكوت ديفوار، والنيجر.

صفحة جديدة

بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كان سكان القارة السمراء قد احتملوا المستعمر لعقود طويلة، وشاركوا بشكل أو بآخر تحت لواءه في القتال في حروب لا تخصهم بشكل مباشر، حينها فقط كانت تلك الشعوب مستعدة للمطالبة بالاستقلال.

بحلول الستينيات، كانت أغلب المستعمرات الفرنسية في أفريقيا قد تمكنت من من كسر قبضة المستعمر، إلا أن الأثر العميق للوجود الفرنسي ظل قائما، يلوح به مصطلح Françafrique أو بالعربية "أفريقيا الفرنسية"، الذي يلخص العلاقات ما بين أفريقيا وفرنسا عسكريا واقتصاديا وسياسيا بحسب موقع مؤسسة The Borgen Project.

حاول الرئيس الفرنسي وضع أسس جديدة لعلاقته بدول غرب أفريقيا. (المصدر: وكالة أسوشيتد برس)

تلك العلاقة المتشابكة بدأت في اكتساب طابع أكثر وضوحا عهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي بدا وكأنه يريد إحياء العلاقات الأفريقية الفرنسية على أسس جديدة، تقوم على الندية وإقامة علاقات على المستوى الرسمي ومستوى المجتمع المدني.

بعض من تصريحات ماكرون في المحافل الدولية، توضح جوهر تلك السياسة، فقد وصف الرئيس الفرنسي الحالي نفسه أنه ينتمي لجيل لم يأت ليُملي على أفريقيا ما تفعله، وفي زيارة إلى كوت ديفوار في العام ٢٠١٩، وصف الاستعمار بأنه خطأ فادح.

ووفقا للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو مركز بحثي أوروبي، أكد ماكرون على الرسالة ذاتها في زيارة هذا العام لجمهورية أفريقيا الوسطى، إذ قال إنه يرغب في بناء علاقة جديدة بالقارة "علاقة متوازنة وتبادلية ومسؤولة".

هناك ٤٣٠٠ جندي فرنسي في منطقة الساحل الأفريقي. (المصدر: وكالة أسوشيتد برس)

لماذا عاد الجيش الفرنسي إلى أفريقيا؟

يعود التواجد العسكري الفرنسي الحالي في دول غرب أفريقيا للعام ٢٠١٣، حينها كان العالم يتابع بقلق وترقب ما الذي يحدث في العراق وسوريا، أو بالتحديد ما الذي يفعله تنظيم داعش هناك.

لم تكن أفريقيا بالضرورة معصومة من تمدد الجماعات الجهادية والإسلامية المسلحة بل طالها شيء من الاضطراب، دفع الحكومة المالية آنذاك لطلب دعم عسكري من فرنسا، لمجابهة تمدد المسلحين الإسلاميين في أراضيها ووصولهم للعاصمة باماكو، فى تلك الظروف، تأسست العملية برخان التي شارك فيها حلفاء أوروبيون آخرون فرنسا في محاولة تخليص المنطقة من المد الجهادي.

على مدار السنوات الأربعة الماضية شهدت ٣ بلدان في غرب أفريقيا انقلابات عسكرية. (المصدر: وكالة أسوشيتد برس)

في البداية بدت العملية العسكرية ناجحة، حسب موقع Harvard International Review حيث تمكنت القوات المتحالفة من دعم القوات المسلحة المالية وتوسيع نطاق عمل العملية واستخدام أدوات وتقنيات قتالية متطورة، لاحقا بدا وكأن جزءا من تلك الجهود لم يكن مجديا بما يكفي، إذ أدى القتال في المنطقة لنزوح ما يقارب من ٢.٥ مليون شخص في دول غرب أفريقيا، بالإضافة لآلاف القتلى في مالي بالتحديد، ما بين مدني وعسكري.

هدوء ما قبل العاصفة

في منطقة الساحل، وصل تعداد القوات الفرنسية لحوالي ٤٣٠٠ جندي، من بينهم ٢٤٠٠ انسحبوا جميعا من مالي قبل أن تنتهي تماما العملية برخان، والسبب هو تغير الدفة السياسية في مالي ذاتها.

اليوم، يسيطر على السلطة في البلاد الكولونيل أسيمي غويتا، في أعقاب انقلاب عسكري وقع في العام ٢٠٢١ وأدى تدريجيا لسقوط السلطة في يد الجيش، وهو الأمر الذي أدى لفتور العلاقة الدبلوماسية الوثيقة سابقا ما بين البلدين.

الكولونيل أسيمي غويتا بسط سيطرته على مالي. (المصدر: وكالة أسوشيتد برس)

لكن مالي ليست الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمر بتجربة الانقلاب، فهناك بوركينا فاسو وأخيرا النيجر، في الوقت ذاته تنخفض شعبية فرنسا في المنطقة إذ ما يزال ينظر لسياستها تجاه المنطقة على المستويات المحلية كجزء من السياسات القديمة دون تغيير يذكر، بينما ما يزال المواطنين في أفريقيا اليوم يعانون من آثار ذلك النظام القديم.

وعلى مدار السنوات القليلة الماضية بدأت تتصاعد احتجاجات ضد فرنسا في المنطقة، تطالب بوقف تدخلها في منطقة المستعمرات السابقة، ليأتي تداعي العملية برخان ليصبح القشة التي قصمت ظهر البعير، وفتحت الأبواب على مصارعها لتدخل العاصفة.

حمل التطبيق

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة

© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة