أمن
.
فلنبدأ قصتنا من صف دراسي هادئ في العراق داخل إحدى المدارس الثانوية في مطلع الألفية.
يتحدث إلى الطلاب معلم ثلاثيني تقليدي للغاية، يمضي بعضا من وقت فراغه في المسجد المحلي حيث يضطلع بدور الإمام، قد لا تبدو عليه أمارات التفرد في مجتمع محافظ، لكن بعد ١٠ سنوات على الأكثر سوف يكتسب شهرة مدوية، وتُخصّص الولايات المتحدة مكافأة قدرها ٧ ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه.
يُدعى الرجل عبدالرحمن مصطفى القادولي، يُعرف أيضا بالاسم المستعار حجي إيمان، وفي أعقاب اندلاع الحرب الأهلية في سوريا وظهور تنظيم داعش للسطح، أصبح إيمان رجل التنظيم الثاني في أغلب الروايات، ويعتقد أنه احتل منصب وزير مالية التنظيم الذي أثار موجات من الرعب حول العالم.
تسأل ما الذي حدث لحجي إيمان؟
في واقع الأمر قُتل إيمان قبل سبع سنوات في عملية قادتها الولايات المتحدة وتمكنت من استهدافه مع مجموعة من القياديين الآخرين في التنظيم بحسب هيئة الإذاعة البريطانية، لكنها لم تكن لتتمكن من تحقيق الانتصار ذلك على التنظيم دون جهود استخباراتية عميقة، ينظم عملها القانون الأميركي وبالتحديد الفقرة ٧٠٢ من قانون التجسس الاستخباراتي الخارجي.
تتيح المادة باختصار للأجهزة الاستخباراتية الأميركية تنفيذ عمليات تجسس إلكترونية على شخصيات غير أميركية بشرط أن تكون "خارج حدود الولايات المتحدة"، مع استثناء بسيط، لا يتطلب تنفيذ تلك العمليات الحصول على إذن محكمة مسبق، الأمر الذي جعل الفقرة محل جدل على مدار أعوام.
في الأول من أغسطس ٢٠٢٣، أعلنت لجنة من مستشاري الرئيس الأميركي جون بايدن للاستخبارات عن وجود انتهاكات تتعلق باستخدام "المادة ٧٠٢" في الرقابة، ما دفعهم للمطالبة بإدخال إصلاحات على طريقة عملها، في حين أقروا أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عنها بشكل كامل.
في ديسمبر المقبل، من المفترض أن تخضع الفقرة ٧٠٢ للتجديد، فيما يبدو أنها باتت تفقد جزء كبير من شعبيتها جراء مخاوف بشأن استخدامها ضد مواطنين أميركيين وأجانب في ذات الوقت، وذلك حسب وكالة فرانس برس، إلا أن الرئيس الأميركي شكل لجنة مستقلة للوقوف على صحة اللغط المثار حول تلك الفقرة.
تقرير اللجنة لم يأت مثالي تماما، سواء للفريق المعارض لاستخدام الفقرة أو حتى المؤيد لها، إذ وجد المستشارون أن التساهل وغياب الإجراءات المناسبة والحجم الهائل لعمليات التجسس، أدى لاستخدام مكتب التحقيقات الفدرالي للأداة على نحو غير مناسب، خاصة فيما يتعلق بالأنشطة التجسسية على الأميركيين.
ارتكب مكتب التحقيقات الفيدرالي انتهاكات أثناء استخدام الفقرة ٧٠٢. (المصدر: وكالة أسوشيتد برس)
حسب تقرير اللجنة، ثلاثة فقط من ملايين المعلومات التي جمعت بفضل هذا القانون ارتبطت بتجاوزات متعمدة، ولكن أفاد التقرير في الوقت ذاته إلى عدم وجود أدلة على سوء الاستخدام المادة القانونية بشكل متعمد لأغراض سياسية.
لكن اللجنة تصر أن تلك المادة فعالة بل وضرورية بالنسبة للأمن القومي في الولايات المتحدة، لكن يتعين إجراء بعضا من التعديلات عليها، أما في حال تسبب الجدل القائم حاليا في إلغاء الفقرة تماما، فتعتقد اللجنة أن التاريخ سوف يعود ليصنف قرار الإلغاء المزعوم ذاك كـ"أحد أسوأ الإخفاقات الاستخباراتية في زمننا".
على موقعه الرسمي، يرد مكتب التحقيقات الفدرالي على مخرجات اللجنة في بيان رسمي، أعلن فيه اتفاقه مع مبدأ تجديد الفقرة على نحو لا يقلل من فاعليتها، ويطمئن العامة في وقت ذاته على أهمية المادة وقدرت المكتب على الالتزام الصارم بالقواعد المتصلة بها.
أفاد البيان كذلك أن المكتب يتطلع للعمل مع الكونغرس حول التوصيات التي طرحها تقرير المادة، واختُتم البيان "نحن نقدر احترافية اللجنة وخبرتها وحكمها أثناء إصدار هذا التقييم المهم".
في عالم ما قبل ١١ سبتمبر، لم يكن للفقر ٧٠٢ وجود. (المصدر: وكالة أسوشيتد برس)
منذ إقرار الفقرة في العام ٢٠٠٨ لأول مرة، حتى تعرضت للانتقاد والمعارضة من جانب نشطاء الحقوق المدنية والمنتمين للحزب الديمقراطي، لكن في حين ما يزال مكتب التحقيقات الفدرالي يكرس الآمال لتجديد الفقرة للمرة الثالثة، انضم الآن جمهوريون إلى صفوف معارضي الـ٧٠٢.
المعارضون الجدد من أنصار الرئيس دونالد ترمب، يعتمدون في جزء من مبررات رفضهم المادة، أن مكتب الاتحاد الفدرالي منحاز ضد ترمب، حسب وكالة فرانس برس.
على الموقع الرسمي لمدير الاستخبارات الوطنية الأميركي، يمكنك أن ترى بوضوح المناطق المتأثرة بالفقرة ٧٠٢، رسم توضيحي بسيط للغاية يوضح لك ذلك النطاق.. كيف يبدو الرسم؟ هو العالم بأكمله، إلا أراضي الولايات المتحدة.
تمكنت الولايات المتحدة بفضل المادة ٧٠٢ من تعقب شخصيات في تنظيم داعش. (المصدر: وكالة أسوشيتد برس)
أما الشروط الواجب توافرها في الشخص المستهدف من قبل المادة ٧٠٢، فتتلخص في ألا يكون "الهدف" أميركي الجنسية وأن يكون خارج الولايات المتحدة، مع توقع أنه يمتلك أو قد يتلقى أو ينقل معلومة مخابراتية.
قبل هجوم الـ١١ من سبتمبر لم تكن تلك الفقرة متاحة، وربما تطلبت بعض الأعمال الاستخباراتية القليل من الإجراءات البيروقراطية، بيد أن إقرارها كتعديل في العام ٢٠٠٨ بات يسمح للأجهزة الاستخبارات الأميركية أن تجمع المعلومات عبر مراقبة أشخاص خارج حدودها إلكترونيا مع مساعدة إجبارية من قبل مقدمي خدمات الاتصال، وتستخدم تلك المعلومات بشكل رئيسي لحماية الولايات المتحدة وحلفائها.
في البداية لم يكن هناك داع لتخصيص مادة من القانون للحصول على رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بأحد الأشخاص الذين تراهم الولايات المتحدة "أهدافا"، حينما كانت الحواسيب عملاقة تشغل غرف بأكملها في الشركات والمؤسسات.
بحلول القرن الجديد، كانت الحواسيب المحمولة قد أصبحت حقيقة واقعة، ورسائل البريد الإلكتروني بديلا معترفا به عن الخطابات التقليدية، والبؤر الإرهابية حول العالم لم تكن متخلفة عن هذا الركب، بل استعانت بمقدمي الخدمات الأميركيين ذواتهم لتأمين خطط بين بعضهم البعض.
داخل الولايات المتحدة، تطلبت مراقبة مراسلات هؤلاء موافقات فردية من المحكمة، ما بدا لصناع القرار أمرا يستنزف الأموال، إذا لم تتمكن السلطات من توفير داع مقنع للحصول على مراسلات أحد المشتبه بهم للمحكة، وفقا لموقع مدير الاستخبارات صممت معايير السببية تلك لحماية الشخصيات الأميركية والمقيمة داخل الولايات المتحدة على وجه الخصوص.
من رحم تلك الأحجية ظهرت الفقرة ٧٠٢، والتي تقول الولايات المتحدة إنها استخدامها يخضع لـ"إشراف مكثف وصارم" من قبل جميع فروع الحكومة الأميركية، حسب الموقع، كما أن جهات المراقبة على أداة المراقبة ترى أن الجهات المعنية تستخدم الأداة المثيرة للجدل "بشكل صحيح".
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة