الدفاع الأميركي.. دروس "لم تتعلّمها" واشنطن من حروب حلفائها
في أوائل يونيو، شهد العالم عمليتين عسكريتين جريئتين غيّرتا مفاهيم الحرب الحديثة: الأولى نفّذتها أوكرانيا ضد أهداف روسية في عمق الأراضي الروسية، والثانية كانت إسرائيلية في قلب إيران. كلا العمليتين اعتمدتا على أسراب من الطائرات المسيّرة الرخيصة ذات الاستخدام الواحد، وتمكّنتا من تدمير أنظمة دفاعية وهجومية كلّفت خصومهما مئات ملايين الدولارات، بينما لم تتجاوز تكلفة كل طائرة مسيّرة بضعة آلاف من الدولارات.
عملية "شبكة العنكبوت" الأوكرانية، التي بدأت في الأول من يونيو، استخدمت مئات الطائرات المسيّرة الصغيرة التي تم تهريبها إلى روسيا وتوجيهها لتدمير 11 قاذفة استراتيجية روسية على الأقل.
وبعد أسبوعين فقط، في 13 يونيو، بدأت إسرائيل عملية ضد طهران، إذ شنّت هجومًا مشابهًا عبر طائرات مسيّرة تم تهريبها إلى داخل إيران وتجميعها هناك، واستُخدمت لتدمير أنظمة الدفاع الجوي الإيراني، مما مهّد الطريق أمام الطائرات الإسرائيلية المأهولة للدخول إلى المجال الجوي الإيراني بحرية تقريبًا.
في الحالتين، تمكّن سلاح منخفض التكلفة من إحداث أضرار هائلة بأنظمة متقدّمة يصعب تعويضها، ما يؤشر إلى تغيّر كبير في ميزان القوى وأساليب القتال.
الواقع الأميركي.. إنفاق ضخم على أسلحة الماضي
رغم النجاح اللافت لهذه العمليات، لا تزال وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تخصص الجزء الأكبر من ميزانيتها لبرامج الأسلحة التقليدية المكلفة: حاملات طائرات، طائرات F-35، ودبابات متطورة.
في المقابل، استثمرت فقط 500 مليون دولار في عام 2023 ضمن المرحلة الأولى من "مبادرة ريبليكاتور" لإنتاج طائرات مسيّرة منخفضة الكلفة، وهو مبلغ يُعدّ زهيدًا قياسًا بحجم التحديات والموازنات، بحسب تقرير
لمجلة "فورين أفيرز".
بالجهة المقابلة، فإن اعتماد أوكرانيا وإسرائيل على الطائرات المسيّرة لم يكن مجرد خيار تكتيكي، بل تحول استراتيجي أثبت فعاليته.
تقول كييف إن 70٪ من خسائر الخطوط الأمامية في الحرب مع روسيا ناجمة الآن عن هجمات بالطائرات المسيّرة.
ومع تنامي هذه الظاهرة، بدأت تتبلور قناعة عالمية بضرورة التحوّل إلى ما يُعرف بـ"الكتلة الدقيقة"، أي امتلاك أعداد كبيرة من الأنظمة الرخيصة والدقيقة، بدلًا من الاعتماد الحصري على منصات باهظة ومعقّدة.
ومن أبرز نقاط قوة هذا النوع من السلاح أنه يفرض كلفة غير متناظرة على العدو. فبينما تكلّف الطائرة المسيّرة الأوكرانية الواحدة ما بين 600 و1000 دولار، فإن الطائرة الروسية الواحدة التي دمّرتها العملية تساوي عشرات الملايين.
إحدى الطائرات الروسية التي يُعتقد أنها دُمّرت في "شبكة العنكبوت" تقدّر قيمتها بـ330 مليون دولار. حتى لو فقدت روسيا طائرة واحدة من كل نوع، فإن الخسائر تفوق بكثير ما أنفقته أوكرانيا.
المعادلة ذاتها ظهرت في العملية الإسرائيلية: تهريب أجزاء الطائرات إلى إيران، ثم تجميعها سرًا، وتوجيهها نحو أهداف حيوية، كلّ ذلك تم بدون كشف أو مواجهة فعلية، لكنه فتح المجال أمام ضربات جوية إسرائيلية ضد منشآت استراتيجية، دون أن تطلق إيران صاروخًا واحدًا تجاه الطائرات الإسرائيلية أو الأميركية.
لكن ليس فقط إسرائيل وأوكرانيا من استوعب دروس "الكتلة الدقيقة"، بحسب المجلة الأميركية، روسيا ردّت على عملية "شبكة العنكبوت" بأضخم هجوم بمسيّرات منذ بداية الحرب، كاد أن يُرهق الدفاعات الجوية الأوكرانية. وإيران ردّت على الضربات الإسرائيلية بهجمات مسيّرة وصاروخية واسعة، أثارت قلقًا داخل تل أبيب وواشنطن من إمكانية نفاد صواريخ الاعتراض لدى إسرائيل، خصوصًا في ظل كلفة الدفاع المرتفعة مقابل كلفة الهجوم المنخفضة.
ورغم صعود المسيّرات، لا تزال الأسلحة التقليدية تلعب دورًا مهمًا، لا سيما في المهام المعقّدة. فقد تطلب ضرب منشآت نطنز وفوردو النووية الإيرانية استخدام قنابل خارقة للتحصينات وزنها 30 ألف رطل، لا يمكن حملها إلا بطائرات B-2 الشبحية الأميركية التي تصل كلفة الواحدة منها إلى ملياري دولار. هذا النوع من الضربات لا تزال الطائرات المسيّرة عاجزة عن تنفيذه.
لكن الدمج بين الوسيلتين هو المفتاح، بحسب تحليل المجلة الأميركية، فالهجوم الإسرائيلي بدأ بالمسيّرات لتدمير الدفاعات، ثم استُكملت الضربة بطائرات مأهولة لضرب الأهداف الثقيلة. النموذج الروسي مشابه: استخدام طائرات مسيّرة لإرهاق الدفاعات، ثم توجيه الصواريخ نحو الأهداف المحمية.