داريا.. مدينة سورية تبحث عن سكانها وقبورهم
بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد، عاد الرسام بلال شوربه الى مدينة داريا ليفاجأ بأن عددا من الجداريات التي رسمها قبل نحو عقد من الزمن لتحاكي تجارب الحصار والاعتقال والتوق للحرية، ما زالت صامدة.
في المدينة الوحيدة التي أخلاها الحكم السابق تماما من سكانها في ذروة سنوات النزاع السوري، يتفقد شوربه (31 عاما) إحدى رسوماته على جدار مهدّم في أحد الأحياء. تجسّد "سمفونية الثورة" كما أسماها، كيف تحوّلت التحركات السلمية الى نزاع مسلح تعدّدت أطرافه. وتظهر في الرسم فتاة برداء أبيض تعزف الكمان، وخلفها جندي يصوّب بندقيته تجاهها، ومن خلفه مقاتل يلاحقه ويقع بدوره تحت مرمى بندقية مقاتل من تنظيم داعش.
في مارس 2011، كانت المدينة الواقعة على بعد سبعة كيلومترات جنوب غرب دمشق، في طليعة حركة الاحتجاج السلمي ضد السلطة، ووزّع المتظاهرون فيها، وبينهم غياث مطر الذي اعتقل وقتل تحت التعذيب، الورود والمياه على الجنود.
لكنّ مع تطوّر الأحداث الى نزاع دام، شهدت داريا مجزرة في صيف 2012 قتل فيها 700 من سكانها على أيدي القوات الحكومية السابقة ومقاتلين موالين لها، قبل أن يحاصرها هؤلاء بشكل محكم لنحو أربع سنوات.
وأسفرت الهجمات عليها عن تشريد كل سكانها الذين تجاوز عددهم 250 ألفا، بين نازحين ولاجئين في دول الجوار وصولا الى أوروبا التي استقطبت قبل عقد موجة كبرى من اللاجئين.
وفي أغسطس 2016، أخلت السلطات من تبقى من سكان ومقاتلين الى محافظة إدلب (شمال غرب).
في العام 2019، وبعدما كانت قوات الأسد استعادت السيطرة على مناطق واسعة خسرتها في السنوات الأولى من الحرب، سمحت دمشق لسكان داريا، خصوصا النازحين إلى محيطها، بالعودة تباعا بعد تدقيق أمني. وكان غالبية العائدين من النساء والأطفال والمسنين.
بعد الثامن من ديسمبر، عاد عشرات الآلاف من السكان، لا سيما اللاجئين الى دول الجوار، وبينهم أطباء ومهندسون وعمال ومزارعون. وحمل عديدون منهم خبراتهم الجديدة ومهاراتهم وحتى أموالهم الى داريا.
المدينة التي اختصرت مأساة الحرب
وتختصر داريا، المدينة التي يمكن منها رؤية القصر الرئاسي بالعين المجردة، مأساة حرب قتلت أكثر من نصف مليون شخص وشرّدت الملايين. أحياء بأكملها سُوّيت بالأرض، مرافق خدمية مدمّرة، شحّ في المياه والكهرباء وغياب الاتصالات عن أحياء عدة. ربع آبار المدينة فقط تعمل ومياه الصرف الصحي تفيض في أحياء عدة.
وبحسب مسح أجرته الجمعية الأميركية للمهندسين السوريين في أبريل، تدمّر نحو 65 في المئة من أبنية المدينة تماما، وتضرّر حوالى 14 في المئة. أما النسبة المتبقية، فهي صالحة للسكن، لكنها تحتاج الى ترميم نسبي وإكساء.
مع ذلك، لم يتردّد حسام اللحام (35 عاما) في العودة مع عائلته التي كوّنها في إدلب، ليرزق بأصغر بناته الثلاث في دمشق هذا العام.
ويقول اللحام الذي نشط بعد العام 2011 في العمل الإغاثي داخل داريا قبل أن يصبح قائدا عسكريا ويغادرها في عداد من تمّ اجلاؤهم منها عام 2016، "قررنا أن نعود إلى داريا، لأننا الوحيدون القادرون على إعادة بناء منازلنا".
ويضيف الرجل الذي يقود لجنة المبادرات ضمن الإدارة المدنية لداريا لوكالة فرانس برس "إذا أردنا انتظار المجتمع الدولي والمنظمات، قد لا نرجع"، مضيفا "نرمّم بيوتنا بأنفسنا لكن نريد المساعدة في البنى التحتية".
وبينما سوّت العمليات العسكرية أحياء بأكملها بالأرض على غرار حي الخليج المحاذي لقاعدة المزة العسكرية، تبدو أحياء أخرى مهدمة جزئيا شبه مقفرة، وتقتصر الحركة فيها على سكان يقطنون منازل رمّموها على عجل في أبنية متصدّعة.
وتبدو أحياء أخرى أقل تضرّرا أشبه بخلية نحل، يتوزّع عمّال على الأسطح، يرمّمون مدرسة هنا ويعيدون بناء واجهة مبنى هناك، بينما ينهمك آخرون بإعادة تأهيل مضخة مياه أو نقل مفروشات صُنعت في المدينة التي يكاد لا يخلو حي فيها من ورشة نجارة.
في داريا، لا تشكل الأبنية المهدمة وحدها شاهدا على حقبة الحرب. ففي "مقبرة الشهداء" التي استُحدثت خلال الحرب، ترقد جثامين 421 شخصا من المدينة موثقين بالأسماء، قتلوا بين عامي 2012 و2016. وتضمّ المقبرة كذلك مدفنا جماعيا فيه جثث مجهولة الهوية دفنت في جزء كبير منها بعد "مجزرة" داريا.
ويروي عدد من سكان المدينة الذين التقتهم فرانس برس، بينهم شوربه ولحام اللذان كانا في عداد آخر من غادر المدينة، كيف عمل المقاتلون والناشطون قبل رحيلهم على نزع شواهد القبور بعد تصويرها، ثم طمسها بالتراب، خشية عبث القوات الحكومية بها انتقاما.
لكنهم فور عودتهم، أعادوا تنظيم المقبرة ووضع الشواهد استنادا الى صور كانوا قد التقطوها.
وتقول آمنة خولاني، ابنة داريا وعضو الهيئة الوطنية للمفقودين التي شكلتها السلطات الجديدة، بينما تزور المقبرة "في داريا غصّة، قسم كبير من الأهالي لا يعرفون أين أولادهم".
وتضيف بينما تحاول حبس دموعها "لا قبر لعائلتي الصغيرة هنا"، مضيفة "أنا اليوم في نضال لأحصل على قبر لإخوتي" الثلاثة.
واعتقلت القوات الحكومية السابقة أشقاءها وتبلّغت العائلة لاحقا بإعدامهم. وظهرت صورة أحدهم في ملفات قيصر التي ضمّت أكثر من خمسين ألف صورة لمعتقلين قضوا في السجون السورية إبان فترة قمع الاحتجاجات السلمية.
ولا تزال عشرات آلاف العائلات في سوريا تنتظر معرفة مصير أفرادها ممن كانوا معتقلين في سجون الحكم السابق ولم يخرجوا منها بعد إطاحته.