أمن‎

لغز الهيمالايا.. كيف أضاعت الـCIA جهازا نوويا لم يعثر عليه؟

نشر
blinx
قبل ستين عامًا، وعلى إحدى أخطر قمم جبال الهيمالايا، اتُخذ قرار في لحظة عاصفة ترك وراءه لغزًا نوويًا لم يُحل حتى اليوم. جهاز نووي أميركي محمول، صُمم في مختبرات شديدة السرية، تُرك مدفونًا تحت الجليد والصخور، والحكومة الأميركية لا تزال ترفض الاعتراف رسميًا بأن شيئًا كهذا حدث أصلًا.
كانت العملية منذ بدايتها مغلفة بالسرية، بحسب تحقيق مطول لصحيفة نيويورك تايمز، ملفات عُثر عليها مؤخرًا في مرآب بولاية مونتانا كشفت كيف جرى بناء قصة غطاء محكمة لواحدة من أكثر عمليات الحرب الباردة سرية، وكيف انهارت تلك الخطة فوق الجبل.
مقابلات مطولة مع من شاركوا في المهمة، إلى جانب وثائق ظلت سرية لعقود في أرشيفات الولايات المتحدة والهند، ترسم صورة واضحة لفشل مدوٍّ، ومحاولات لاحقة للتستر شارك فيها مسؤولون رفيعو المستوى، بينهم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر.

كيف بدأت القصة؟

تكشف الوثائق عن قلق متصاعد في واشنطن ونيودلهي معًا، فالعلاقة بين البلدين كانت، كما هي اليوم، معقدة وحساسة.
كلاهما كان يخشى تنامي القدرات النووية الصينية، ويراقب تحركات الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، ويتعامل مع توازنات دقيقة في ذروة الحرب الباردة. ورغم أن البلدين وجدا أسبابًا للتعاون، فإن الشك المتبادل لم يغب يومًا.
كان من الممكن أن يؤدي الجهاز النووي المفقود والمخاطر المرتبطة به إلى أزمة دبلوماسية حادة. لكن الوثائق تُظهر أن الرئيس كارتر ورئيس الوزراء الهندي آنذاك، مورارجي ديساي، تعاونا سرًا لتطويق القضية على أمل أن تختفي بهدوء، غير أن اللغز لم يختفِ.

الفضيحة

في سبعينيات القرن الماضي، بدأت خيوط الفضيحة تطفو على السطح. وحتى اليوم، لا يزال كثيرون في الهند يطالبون بإجابات. سكان القرى النائية في أعالي الهيمالايا، وناشطون بيئيون، وسياسيون، يخشون أن يؤدي ذوبان الجليد إلى انزلاق الجهاز نحو الجداول المتجمدة، ملوِّثًا منابع نهر الغانغ، أقدس أنهار الهند وشريان حياة لمئات الملايين.
صحيح أن كميات المياه الهائلة قد تُخفف أي تلوث محتمل، لكن البلوتونيوم مادة شديدة السمية، قادرة على التسبب بسرطانات خطيرة.
ومع تراجع الأنهار الجليدية، قد يظهر المولد النووي إلى السطح، مهددًا كل من يعثر عليه.
العلماء يؤكدون أن الجهاز لن ينفجر من تلقاء نفسه، لعدم وجود آلية تفجير، لكنهم يحذرون من سيناريو أشد قتامة: استخدام نواته في "قنبلة قذرة".
في صيف العام الماضي، أعاد نائب هندي بارز فتح الملف، محذرًا من خطورة الجهاز المفقود، ومتسائلًا: لماذا يجب على الشعب الهندي أن يدفع الثمن؟".
أما الرجال الذين حملوا الجهاز إلى القمة وأقسموا على الصمت، فقد عاشوا عقودًا وهم يحملون عبء القرار.
جيم مكارثي، آخر متسلق أميركي ما زال على قيد الحياة من أفراد المهمة، قال إنه لم ينسَ لحظة اتخاذ قرار ترك الجهاز: "كان لدي إحساس داخلي بأننا سنفقده".
وقال إنه حذر قائد المهمة: "أنت ترتكب خطأً فادحًا. يجب إعادة المولد".
قبل انتشار الطاقة الشمسية، رأت وكالة "ناسا" في هذه المولدات النووية حلًا مثاليًا لتشغيل الأجهزة في البيئات القاسية.
فهي تحوّل الحرارة الناتجة عن المواد المشعة إلى كهرباء، وأسهمت في إنجاح مهمات فضائية تاريخية. ولا يزال المسبار "فوياجر 1"، الذي أُطلق قبل أكثر من 45 عامًا، يتواصل مع الأرض من أعماق الفضاء بفضل هذه التقنية التي طُورت في خمسينيات القرن الماضي.

من الطاقة إلى التجسس.. هكذا وصل الجهاز إلى رأس الجبل وبقي هناك

لكن في منتصف الستينيات، وجدت هذه التكنولوجيا طريقها إلى عالم التجسس. ففي أكتوبر 1964 فجّرت الصين أول قنبلة ذرية لها في إقليم شينجيانغ.
كان الرئيس الأميركي ليندون جونسون مهووسًا بمنع بكين من امتلاك السلاح النووي، لكن الصين سبقته. ومع غياب مصادر استخبارات بشرية فعالة داخل الصين، بدأ البحث عن حلول غير تقليدية.
وهكذا، وُلدت الفكرة في مكان غير متوقع، هناك، استمع الجنرال كورتيس ليماي، قائد سلاح الجو الأميركي وأحد مهندسي الاستراتيجية النووية، إلى المصور والمتسلق الشهير باري بيشوب وهو يصف المشاهد المترامية من قمة إيفرست وإمكانية رؤية مساحات شاسعة من التبت وعمق الصين.
بعد الحفل، استدعت الـCIA بيشوب وطرحت خطة جريئة: متسلقون أميركيون يتسللون إلى الهيمالايا، يحملون أجهزة مراقبة ثقيلة، ويثبتون محطة تنصت على قمة جبل لالتقاط إشارات تجارب الصواريخ الصينية.
كان بيشوب، بصفته مصورًا في "ناشيونال جيوغرافيك" ومتسلقًا مخضرمًا، الغطاء المثالي.
ملفات عُثر عليها لاحقًا تُظهر منحه إجازة رسمية، وتوثّق انخراطه العميق في التخطيط، من دراسة المتفجرات إلى إعداد قوائم الطعام.
نجاح المهمة كان يعتمد على إبقاء المعدات عاملة لفترة طويلة، وهنا جاء دور المولد النووي المحمول. لكن بيشوب، الذي فقد أصابع قدميه بسبب قضمة الصقيع في إيفرست، لم يعد قادرًا على التسلق التقني. فبدأ بتجنيد نخبة من المتسلقين، بينهم جيم مكارثي، الذي وافق بدافع وطني بعد أن قُدمت له المهمة كضرورة للأمن القومي.
بعد ذلك، لجأت الـCIA إلى الهند، لم يكن على علم بالمهمة سوى قلة قليلة من المسؤولين، لكن الخوف من الصين كان عميقًا، خصوصًا بعد هزيمة الهند في حرب 1962. فاختير الكابتن كوهلي، متسلق الجبال المخضرم وقائد أول فريق هندي يصل إلى قمة إيفرست، لقيادة الجانب الهندي.
الخطة الأولى كانت وضع محطة التنصت على جبل كانشينجونغا، ثالث أعلى جبل في العالم، صُنعت بطاقات عمل مزيفة، وأُطلقت تسمية "البعثة العلمية لسيكيم"، وجُمعت خطابات دعم رسمية لإضفاء الشرعية.
وهكذا، انطلقت المهمة التي انتهت بقرار واحد فوق قمة مغطاة بالعواصف: ترك جهاز نووي في قلب الهيمالايا.
ومنذ ذلك اليوم، لا أحد يعرف على وجه اليقين أين انتهى ذلك الجهاز، ولا ماذا سيحدث إذا عاد إلى الظهور.

حمل التطبيق

© 2025 blinx. جميع الحقوق محفوظة

© 2025 blinx. جميع الحقوق محفوظة