مجتمع
.
قررت الشابة اللبنانية مايا أبي رميا، ٢٦ عاما، تعلم اللغة السريانية بعد أن كانت تسمع بعض كلماتها خلال مشاركتها في الطقوس الدينية المسيحية في البلاد. كان لديها الفضول أن تعرف أكثر عن هذه الكلمات التي لم يعرف أهلها ولا أقاربها الإجابة سوى أنها "كلمات سريانية" من دون الخوض في معانيها.
تروي أبي رميا تحديات تعلم هذه اللغة "المهددة بالانقراض"، وتحدثت لـ بلينكس كيف كانت في يوم من الأيام اللغة الأم في سوريا والعراق ولبنان، ومناطق عدة أخرى.
الأمر لا يتوقف على لبنان، وإنما يمتد لبلد ثان لا يشترك في حدود مع بلاد الأرز، مثل العراق الذي أطلق قناة تلفزيونية ناطقة بالسريانية.
"اللغة الأم التي منها تفرعت اللهجات المتعددة للطوائف الكلدانية والسريانية والآشورية". أ ف ب
اللغة السريانية الآرامية هي إحدى اللغات القديمة المعروفة بالسامية، وسميت أيضا بـ"اللغة النهرية"، نسبة إلى نهر دجلة التي انتشرت على ضفافه، وسماها المؤرخون تارة آرامية وطورا سريانية، وفق ما أورد الباحث الأب برصوم يوسف أيوب، الذي كان يحاضر باللغة السريانية في كلية الآداب بجامعة حلب.
وأيد مؤرخو الشرق والعرب أن اللغة السريانية هي من أقدم اللغات السامية.
وانتشرت اللغة السريانية على ضفاف دجلة والفرات قبل المسيح بأزمان طويلة، فكانت لغة التجارة والمعاملات والمعاهدات الدولية، وربما أقدم لغة دولية.
فضولها حول الكلمات السريانية التي كانت تسمعها في الطقوس الدينية دفعها نحو البحث أكثر عن اللغة الأم، وتبين لها أن السريانية لم تمت، بل باتت جزءا من اللهجة اللبنانية العامية التي هي خليط لغات وثقافات ومنها السريانية.
عمر مايا، وقربها من الجيل الشاب والجماعات الشبابية التي تنتسب لها ساعدها في حملات التعليم والتثقيف حول اللغة السريانية. وكي تنجح أكثر في هدفها ستطلق قريبا برنامجا تلفزيونيا عن اللهجة اللبنانية واللغة السريانية.
بدأت تتعلم اللغة من خلال يوتيوب، وبعدها استعانت بأساتذة تجلبهم إلى لقاءات شبابية أسبوعية، ومن خلال تسويقها على مواقع التواصل الاجتماعي، كبر الفريق وبات يضم ٣٠ شخصا، وأخذ بعدها بالتوسع أكثر.
وسعت للظهور إعلاميا في برامج صباحية للإضاءة على مشروعها لتعليم السريانية.
وفق كتاب اللغة السريانية للأب أيوب، فإن العلماء والباحثون أجمعوا على أن أقدم اللغات السامية هي العربية القديمة والبابلية والكنعانية، وأن الألفاظ المشتركة الكثيرة في جميع اللغات السامية الأصلية مثل الضمائر وأسماء الإشارة وألفاظ العدد، وأعضاء الجسم وغيرها من الألفاظ مثل سماء، شمس، أخ، اسم، بيت، جميل، ليل، ولد، وعدد لا يستهان به من حروف الجر.
أمام هذه المعلومات، تسعى مايا لأن تعرف جميع الفئات على أصل اللغة السريانية، وكيف اندمجا باللهجة اللبنانية العربية، وقالت في حديثها لـ"بلينكس" إن السريانية لن تعود إلى الاستخدام اليومي، لكن لا يمنع أن نحافظ على لغة أم قديمة استخدمت على مدى مئات السنوات.
وحسب أيوب فإن السريانية هي الآرامية أدى بها تقادم العهد إلى ارتداء حلة جديدة.
يتحدث مسيحيو العراق اللغة السريانية بلهجاتها المختلفة في بيوتهم ومدارسهم. وتحت وطأة عقود من الحروب والتهجير، باتت اللغة في خطر، لكن قناة عامة جديدة ناطقة بالسريانية تسعى للحفاظ على هذا الإرث الضارب بالقدم.
الصحافية العراقية مريم ألبرت، 35 عاما، تقدم نشرة الأخبار على القناة السريانية الحكومية، والتي هي جزء من شبكة الإعلام العراقي، وتتكلم بلغة سريانية "أكاديمية"، اللغة الأم التي منها تفرعت اللهجات المتعددة للطوائف الكلدانية والسريانية والآشورية، والتي قد تختلف من قرية إلى أخرى.
ترى مريم أن وجود "برامج لإيصال هذه اللغة أمر مهم جدا"، وتعرض القناة برامج عن السينما والثقافة والتاريخ، بعضها باللهجات المحلية، أما نشرات الأخبار فتقرأ بلغة سريانية "أكاديمية"، لكن "ربما هناك الكثير من المستمعين المسيحيين لا يفهمون هذه الكلمات التي نقولها"، وفق مريم.
تشعر مريم بالأسف بسبب اندثار لغتها الأم "صحيح أننا نستخدمها في بيوتنا، لكن وجود قناة توصل هذا الصوت أفضل".
تغيب الإحصاءات الدقيقة لأعداد المسيحيين في العراق. لكن، حسب فرانس برس، هناك تقديرات تشير إلى أن عددهم لا يتخطى 400 ألف نسمة، من نحو مليون ونصف مليون قبل عقدين، هاجروا بفعل عشرين عاما من الحروب والنزاعات.
تضم القناة السريانية التي أطلقت تجريبا، في العراق، قبل ثلاث سنوات ورسميا مطلع أبريل الماضي، نحو 40 موظفا، بينهم عشرة مقدمي برامج، هم خمس نساء وخمسة رجال.
يقول مدير القناة السريانية، جاك أنويا، ٣٠ عاما، إن "اللغة السريانية كانت يوما ما لغة الشرق الأوسط وعلى الحكومة الحفاظ عليها من الاندثار"، ملاحظا أن "العراق جميل بهذه الثقافات والتنوع الذي فيه.. من طوائف وأديان متعددة".
بالنسبة لكوثر نجيب عسكر رئيس قسم اللغة السريانية في جامعة صلاح الدين الحكومية في أربيل، عاصمة إقليم كردستان في شمال العراق، فإن "اللغة السريانية" التي استخدمت لآلاف السنين في كنائس العراق وسوريا وجنوب تركيا ولبنان، هي اليوم "لغة مركونة نوعا ما".
"لا نقول لغة ميتة، إذ لا يزال المتحدثين باللهجات يعتمدون عليها، ولا يزال بعض الكتاب ورجال الدين يهتمون بها، لكن الخطر عليها وارد"، يضيف لوكالة الأنباء الفرنسية.
في قرقوش، أقدم البلدات المسيحية الواقعة في سهل نينوى في شمال العراق، يجلس تلاميذ ثانوية مار أفرام السريانية قبالة أستاذهم صلاح سركيس باكوس محدقين بلوح أبيض كتبت عليه الأحرف السريانية.
يدرّس باكوس البالغ 59 عاما اللغة منذ أن أدخلت إلى المناهج الدراسية قبل 18 عاما، ويرى أن تعليمها أمر "ضروري جدا ليس فقط للأطفال، بل لبقية فئات المجتمع كذلك" لأن "هذه اللغة تمثل تاريخنا، لغتنا الأم في بلاد ما بين النهرين".
لكن باكوس الذي أحرقت داعش مكتبته التي كانت تضم نحو ألف كتاب نصفها سريانية، يبدي قلقه لفرانس برس من كون "جيل اليوم لا يبالي بتعلم لغته"، وخصوصا أن "ولي أمره يقول إن اللغة السريانية أصبحت ميتة ولا فائدة منها".
يعود انتشار اللغة الآرامية إلى نشاط الآراميين، أرباب التجارة في مصر، على شاطئ المتوسط حتى بلاد الرافدين، وفق أيوب.
وحملت القوافل الآرامية حسابات التجارة وسنداتها مكتوبة بالحروف الآرامية، الأمر الذي ساهم في انتشارها في جميع أقطار آسيا الغربية حتى تجاوزت وقتها الفرات إلى بلاد فارس وأوساط آسيا ووصلت الهند، وصارت بعدها حروفها أساس حروف الهجاء لكل اللغات الشرقية.
ولأن السريانية هي تبسيط للآرامية، فإنها غزت بلاد آشور في عصرها الذهبي وكتبت فيها جميع المعاملات التجارية، انتشرت في بلاد فارس وأصبحت لغة العلم والتجارة.
© 2024 blinx. جميع الحقوق محفوظة